كتب علي أنوزلا: ما بعد دستور سعيّد

2022.08.03 - 01:47
Facebook Share
طباعة

كما كان متوقعا، نجح الرئيس التونسي قيس سعيّد في تمرير دستوره الذي يمنح فيه لنفسه صلاحيات عديدة وغير محدودة، وفرض الأمر الواقع بالتكتيك والهدوء نفسيهما اللذين دأب على اتباعهما منذ وصوله إلى السلطة لفرض دكتاتوريته في صمت، فالرجل يحقق أهدافه بالنقاط وليس بالضربة القاضية على غرار الدكتاتوريات العسكرية، وهنا خطورته على بلده تونس التي باتت ضمن ثلاث دول، بالإضافة إلى مصر والبرازيل، مهدّدة بالانهيار على غرار سريلانكا، كما كتبت صحيفة لوجورنال دو ديمونش الفرنسية، وذلك بسبب غلاء تكاليف المعيشة في هذه البلدان، وتباطؤ نمو اقتصادياتها وتفشّي الفساد فيها وتخلفها عن سداد ديونها.

لقد أدخل الرئيس التونسي بلاده في مغامرة غير محسوبة العواقب، كانت أولى نتائجها التشكيك في شعبيته التي يستمد منها شرعيته، وذلك على إثر المشاركة الضعيفة في الاستفتاء الذي دعا إليه التونسيين وقاطعته ثلاثة أرباع منهم، لكن الأخطر ردات الفعل الدولية، وخصوصا الغربية، التي انتقدت انزياح نظامه نحو التأسيس لدكتاتورية مستبدّة. وكان من نتائج هذا الاندفاع المتهور والتعنّت في فرض القرارات هو عزل بلاده عن بقية العالم، وخصوصا الغربي، وزجّها في استقطاب إقليمي، سيؤدي إلى مزيد من التفتيت داخل منطقة تتجاذبها استقطابات كثيرة، وتأليب التجاذبات الجيوسياسية الفارغة التي أخّرت نموها عقودا.


قيس سعيّد هو نتاج للفشل الذي ميز تجربة الانتقال التونسي نحو الديمقراطية

لقد أنهى الرئيس التونسي بجرّة قلم عقدا من البناء الديمقراطي في بلاده، وبتمرير دستوره يكون قد أغلق آخر قوس في ثورات الربيع العربي التي اندلعت من تونس، وفتح الباب واسعا أمام مساحات واسعة من الشك والتيه العربي في صحراء الاستبداد. فالرئيس سعيد في طريقه إلى التأسيس لديكتاتورية منتخبة تستمد شرعيتها من الاستفتاء الذي فرضه على الجميع، ونجح في تمريره بأغلبية ضعيفة ومشكوك فيها، منهيا بذلك عقدا من الجدل والنقاش السياسي الذي عاشته الساحة السياسية التونسية، والذي، على الرغم من كل عيوبه، إلا أنه كان بمثابة لحظة تعلم أساسية على مسار بناء ديمقراطية حقيقية. فكل المراحل الانتقالية لبناء الديمقراطية تمر بمراحل مخاض عصيبة، قبل أن يشتد عود الثقافة الديمقراطية في البلاد وتبني مؤسساتها القوية التي تحميها من أخطائها ومن خصومها. حدث هذا في أكثر من تجربة انتقال ديمقراطي في إسبانيا وبولونيا وتشيلي وفي جنوب أفريقيا، وقبل ذلك بقرون في الثورة الفرنسية التي عاشت تحوّلات وصراعات كبرى دامت قرنين قبل أن يستقرّ الوضع على ما هو عليه اليوم فيها.

نحن الآن أمام مرحلة جديدة مليئة بالشكوك واللايقين تدخلها تونس ومعها المنطقة العربية، بعد أن تم الإجهاز كليا على ثورات الربيع العربي، وتفكيك كل أدوات الاحتجاج والرفض الشعبيين، والعودة مجدّدا إلى مرحلة "الدكتاتورية المنتخبة"، المبنية على الخوف والقمع أو على الانتخابات المزوّرة والشرعيات المزيفة أو الهشّة كما هو الحال في تونس اليوم. لكن خطورة ما أقدم عليه الرئيس سعيّد بتعطيل مسار الانتقال الديمقراطي في بلاده هو الرسالة التي يوجهها إلى الخارج، وخصوصا إلى الغرب، أن الديمقراطية لا تصلح للشعوب العربية، وأن شعارات الحرية والكرامة التي خرجت الشعوب تطالب بها في أكثر من دولة عربية ليست سوى نزوات لحظية، يمكن التنازل عنها أمام الحاجة إلى الغرائز الطبيعية والفطرية المتمثلة في الأكل والأمن.

الأمل معلق على ذكاء الشعب التونسي الحيوي والنشط في مفاجأتنا بما هو أجمل

قيس سعيّد هو نتاج للفشل الذي ميز تجربة الانتقال التونسي نحو الديمقراطية، وهو أكبر خيبة أمل مني بها التونسيون بعد عشر سنوات من محاولة البناء الديمقراطي المتعثّر، وحتى أولئك الذين ناصروا انقلابه قبل عام باتوا يعون فداحة الأمر وخطورة المغامرة التي يقود بلادهم نحوها رئيس دوغمائي متعصب لأفكاره ولقراراته، لا يحب أن يناقشه أو يخالفه فيها أي شخص كيفما كان ومستعد للمحاربة من أجلها بكل ما أوتي من قوة، حتى لو أثبتت كل الدلائل، بما فيها الاستفتاء أخيرا الذي قاطعته الأغلبية الساحقة من التونسيين، خطأها وعدم صوابيتها، فالرجل ماض في تعنّته وفرض أجندته على شعبه للتأسيس لمشروعه الاستبدادي الشعبوي، غير مكترثٍ بحجم الغضب الشعبي المتنامي الرافض سياساته، وبخطورة الانقسامات التي يزرعها داخل بنية المجتمع التونسي التي ظلت متماسكة، رغم كل الأزمات التي عاشتها طوال العقود الماضية.

خلال العقد الماضي، شكلت تونس "استثناء" فريدا في المنطقة العربية، ومع دستور سعيّد تدخل البلاد مرحلة جديدة من التحول الاستبدادي القائم على فكرة الرجل المنقذ، والكرة اليوم في ملعب التونسيين، خصوصا نخبهم الديمقراطية والمتنورة لإنقاذ بلادهم من العودة إلى نادي الدكتاتوريات الشرقية، فالمرحلة المقبلة ستكون الأصعب في تاريخ هذا الانقلاب الصامت الذي يقوده سعيّد، وإذا ما قوبل بالصمت والتواطؤ نفسيهما اللذين شهدهما العام الأول من فرضه، فإنه سيأتي على كل مكتسبات الثورة التونسية التي لم يتبق منها اليوم سوى هامش من الحرية التي ما تزال موجودة، ولو بشكل ضيق ومحاصر. تونس وشعبها يستحقّان ما هو أفضل من العودة إلى الدكتاتوريات التي جرّبوها في عهدي بورقيبة وبن علي، والأمل يبقى معلقا على ذكاء هذا الشعب الحيوي والنشط في مفاجأتنا بما هو أجمل من ركاكة خطابات سعيّد وبؤس قراراته.

المقال لا يعبر عن رأي الوكالة وانما عن رأي كاتبه فقط

المصدر: العربي الجديد 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 10