كتب سالم لبيض: إعادة إنتاج السلطوية في الدستور التونسي الجديد

2022.07.25 - 08:10
Facebook Share
طباعة

 يبدو أن كثيرا من النقاشات المتعلّقة بالدستور التونسي الجديد الذي يُستفتى فيه التونسيون اليوم 25 يوليو/ تموز 2022، على غرار الخوض في الفروق بين المخطوط الذي تقدّم به رئيس "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، الصادق بلعيد، وما أثاره من لغط قانوني وسياسي، ونظيريه المعلن عنهما من الرئيس قيّس سعيّد يومي 30 يونيو/ حزيران المنقضي و8 يوليو/ تموز الجاري، والأخطاء التي تسرّبت، ووقع إصلاحها، على حدّ قول الرئيس، لم تعد ذات جدوى عملية وأهمية تاريخية، فالدستور الجديد سيصبح أمرا واقعا فجر يوم 26 من شهر يوليو/ تموز الجاري، مهما كان موقف أغلبية المصوتين بالسلب أو بالإيجاب، ومهما كان عدد الناخبين، فلا وجود لعتبةٍ انتخابيةٍ أو نسبة مشاركة محدّدة تضفي على الاستفتاء شرعية قانونية ومشروعية شعبية، وذلك بموجب الفصل 142 من الدستور نفسه في نسخته المنشورة بالجريدة الرسمية التونسية طبقا للأمر الرئاسي عدد 607 المؤرّخ في 8 يوليو/ تموز 2022، وفيه "يدخل هذا الدستور حيّز النفاذ ابتداء من تاريخ إعلان الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات عن نتيجة الاستفتاء النهائية"، من دون الإشارة إلى شرط تصويت الأغلبية بنعم. 

يتميّز الدستور الجديد بغياب التداول في شأن جميع نسخه ومسوّداته، ففي حين ترك دستور 1 جوان (يونيو/ حزيران) 1959 إرثا من المداولات والنقاشات حُفظت في مجلدين كاملين من 782 صفحة نشرهما مجلس نواب الشعب في عدّة طبعات، وخاضت في محتوياته الصحافة الوطنية والعالمية والقوى السياسية والحزبية ثلاث سنوات متتالية 1956-1959، وكذلك الأمر بالنسبة لدستور 27 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2014 الذي نُشرت مداولاته في ثلاثة مجلدات من 3816 صفحة، تولى مجلس النواب طبعها، وآلاف المقالات والحوارات المنشورة ورقيا وافتراضيا، وترسانة من الفيديوهات التي وشّحت بها السوشيال - ميديا مواقعها ثلاث سنوات 2011-2014. وكان المواطن التونسي، بعامته ونخبه ومجتمعيه المدني والسياسي، شريكا ومؤثرا في تلك المداولات التي عرفها المجلس الوطني التأسيسي، من خلال أعمال لجانه وجلساته العامة بطريقة غير مباشرة، لتفاعله كليا أو جزئيا مع ما يجري عبر مواقعه الافتراضية وصفحاته الفيسبوكية (8 ملايين مواطن لديهم بروفايلات وصفحات فيسبوك في تونس)، فإن الدستور الجديد قد كُتب خلسة وعلى عجل، ويُنسب إلى شخص واحد، ولم تُصاحب نشره أي مداولات أو مناقشات، بما في ذلك مضامين الحوار الوطني الصوري الذي ترأسه العميد الصادق بلعيد، ما يعني أن كتّاب مختلف المسوّدات ينظرون إلى الشعب التونسي، بنخبه الفكرية والسياسية والحقوقية والإعلامية والحزبية والمدنية والإدارية الموزّعة على عشرات الآلاف من الكوادر الوطنية، مجموعات من القُصّر فاقدي المعرفة والأهلية، ولا يرتقي وعيهم إلى مستوى المساهمة في النقاش والمشاركة بالأفكار والصياغة، وجب أن يقتصر دورهم على القول نعم أو لا فقط لنص الدستور الذي هو هدية ومنّة من الرئيس لشعبه

هذا الدستور من صنف الدساتير المهداة، مثل دستور 1861 الذي وضعه محمد الصادق باي، بإملاء من قناصل الدول الأوروبية، وخصوصا قنصلي فرنسا والمملكة المتحدة، في تونس، ولم يجر الإعلان عن العمل به إلا بعد أن وافق عليه نابليون الثالث، حاكم فرنسا الذي التقاه باي تونس في أثناء زيارته الجزائر، المستعمرة الفرنسية آنذاك، في سبتمبر/ أيلول 1860، حسب الوثائق التي اعتمدها الباحث في التاريخ التونسي، المازري بديرة، في أطروحته "العلاقات الدولية والتخلف: تونس 1857-1864"، وفي مقالته "عهد الأمان ودور العلماء والمتأوربين في وضع أول دستور تونسي"، المنشور في "النخب والسلطة في العالم العربي خلال العصر الحديث والمعاصر"، وقد كان مصيره السقوط المدوي سنة 1864، أي بعد ثلاث سنوات على أيدي ثورة القبائل التونسية بقيادة علي بن غذاهم حامل لقب باي الشعب. وهو دستور ممنوح كذلك ومفروض عنوة لأن الرأي العام الشعبي المنتفض في عشرات آلاف الأفعال الاحتجاجية والإضرابية على حكومات ما بعد الثورة التونسية من أجل حق الشغل والتنمية العادلة والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية ومقاومة الفساد وعدم التمييز بين الطبقات والجهات، وكذلك الأمر بالنسبة للنخب الفكرية والأحزاب السياسية، لم يكن على لوائح أولوياتهم المطالبة بدستور جديد، بدلا من دستور سنة 2014 الذي بلغ سبع سنوات من عمره عشيّة واقعة 25 يوليو/ تموز 2021 وإجراءاتها الاستثنائية، مع استثناء حزب التحرير الإسلامي (التونسي) الذي يمتلك دستورا لدولة الخلافة الإسلامية التي يعمل على بعثها ومنها ما يسميها "ولاية تونس"، والحزب الدستوري الحرّ الذي أعدّ دستوره الخاص، ولكنه التزم بمقتضيات الدستور التونسي لسنة 2014، الأمر الذي مكّنه من الفوز بـ 17 مقعدا في البرلمان بعد مشاركته في الانتخابات التشريعية لسنة 2019.
في سنة 1987 أصدر عبد الفتاح عمر وقيس سعيّد كتابا من 536 صفحة، عنوانه "نصوص ووثائق سياسية تونسية"، جمع مدونة الإرث الدستوري التونسي بين 1857 و1987 بما في ذلك دستورا 1861 و1959، وقد أُضيفت لهذه المدونة لاحقا التنقيحات الدستورية التي شهدتها فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (1987-2011) ودستور 2014 ومداولاته وتطبيقاته إلى أن عُلّق العمل به بموجب المرسوم الرئاسي عدد 117 لسنة 2021. اللافت لانتباه الباحثين والسياسيين تجاهل سعيّد إرثا دستوريا لنصف قرن أو يزيد (1959- 2014)، كان يدرّسه لطلبته 30 سنة، والترفّع الكامل في توطئة دستوره (يوليو/ تموز 2022) عن الإشارة إلى دستوري 1959 و2014، والاقتصار عرضا على ذكر دستور قرطاج القديم ونص عهد الأمان 1857 ودستور 1861. أمّا "الدستور الذي عرفته تونس في مطلع القرن السابع، وكان يحمل اسم الميزان ويعرف عند السكان آنذاك بالزمام الأحمر" وفق ما جاء في التوطئة، فقد خُصّصت له فقرة بثلاثة أسطر ونصف، في حين أنه دستور وهمي لم يذكره كبار المختصين في تاريخ  تونس العثماني الأول والثاني 1574 - 1705 - 1881 في دراساتهم وبحوثهم، ولم يحفظ الأرشيف الوطني التونسي نسخة منه، حسب جرد "وثائق من القرنين السادس والسابع عشر" المنشور في "كرّاسات الأرشيف الوطني التونسي سنة 2009" بإشراف عبد الحميد هنية والصادق بوبكر المؤرّخين المختصّين في دراسة الفترة المذكورة. وعلى الأرجح أن الرئيس قيس سعيّد قرأ عن ذلك الدستور في كتاب أحمد بن أبي الضياف "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" عند تناوله تجربة عثمان داي حاكم تونس 1593-1610، الذي وفق رواية الإتحاف، "حصّن أمره بترتيب قوانين في الرعايا، وقيّدها في دفتر يسمّى عند رجال الدولة بالميزان، وكان جلد سفره أحمر، وتسميه العربان لذلك بالزمام الأحمر، يلوذون بما فيه إن توقعوا حيفا من الخاصة، وبقي هذا الميزان دستورا يُرجع إليه". لكن المؤرّخة التونسية فاطمة بن سليمان اعتبرت، في أطروحتها المنشورة "الأرض والهوية: نشوء الدولة الترابية في تونس 1574-1881"، أن الزمام الأحمر أو الميزان الذي وضعه عثمان داي "قد يكون دفترا جبائيا تضمّن أول إحصاء لممتلكات السكان والجباية المفروضة عليهم"، وفق قواعد محددة بعد أن أصبحت تونس ولاية عثمانية.  وعلى الأرجح أن يكون الدفتر الجبائي عدد 1 المحفوظ بالأرشيف الوطني التونسي الذي يعود إلى سنة 1680 هو استنساخ لدفتر الزمام الأحمر، فهو يتضمّن إحصاء ممتلكات السكان ومحاصيلهم وما يستوجب عليهم دفعه سنويا، قبل إرسال جزء منه إلى الباب العالي، ذلك أن التشكّل المجالي التونسي للدولة الحديثة التي ستبحث عن فكّ ارتباطها لاحقا مع العثمانيين، وسيعمل بعض قادتها على إرساء قانون ينظّمها، يسمّى الدستور، لم تظهر بعد، ناهيك أن الدساتير تأخر ظهورها في البلدان التي كانت سبّاقة إلى معرفتها إلى نهاية القرن الثامن عشر في كل من الولايات المتحدة التي يعود دستورها إلى سنة 1789 وفرنسا التي عرفت أول دستور سنة 1791.

وفي مقابل غياب ذلك النص الدستوري، وعدم توفر أي معطيات متعلقة بمضامينه في الأرشيف الوطني التونسي، وفي غيره من الأرشيفات الدولية، وخصوصا الأرشيف العثماني، باعتبار أن تونس ولاية عثمانية آنذاك، وفي أعمال المؤرّخين المختصين في دراسة القرنين السابع عشر والثامن عشر، ذكر الحبيب بولعراس في كتابه "تاريخ تونس" أنه "في 1702 ابتدع ابراهيم الشريف الجمع بين الألقاب، وبذلك تسمّى بعض بايات الحسينيين، حتى القرن العشرين، باشا باي داي للإشعار بأنهم يمسكون بالسّلط كلّها"، مجسّدا أحسن مثال للحاكم المستحوذ على جميع السلطات.

على عكس الدساتير التقدمية والعصرية التي تستفيد نصوصها من التجارب الديمقراطية المقارنة ومن التحولات السياسية والحضارية ومن التغيّرات الاقتصادية العملاقة والثورات التكنولوجية الكبرى العابرة للأزمنة والجغرافيا، جاء دستور 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2022 مستلهما ومستحضرا أرواح مدونات قانونية ودستورية عتيقة شبعت موتا، لا وظيفة لها سوى تزيين جدران المتاحف السياسية على غرار دستور 1861، والزمام الأحمر عديم الأثر في دور الوثائق والمخطوطات. يستبطن الرئيس قيّس سعيّد، في دستوره الجديد، نوستالجيا أدوار إمبراطورية خارج سياقاتها التاريخية، ونهما للسلطة ورغبة في الحكم بصفة منفردة وتكديسا للوظائف والسلطات الرئاسية المنتقاة من الأنظمة الجمهورية الرئاسية والبرلمانية ونظيراتها الملكية مجتمعة، من دون أدنى تفريق بينها أو استقلالية بسبب الهيمنة المطلقة للسلطة التنفيذية التي يحتكرها رئيس الجمهورية. 
ينعكس هذا النهم في سعة حجم الصلاحيات والمهام الممنوحة للرئيس، وتحصينه من أي مراقبة أو مساءلة أو متابعة أو سحب ثقة أو عزل إن هو ارتكب من الجرائم ما يستوجب إنهاء مهامه، وذلك على قاعدة ما جاء في الفقرة الأخيرة من الفصل 109 "يتمتّع رئيس الجمهورية بالحصانة طيلة توليه الرئاسة وتعلّق في حقّه كافة آجال التقادم والسقوط ويمكن استئناف الإجراءات بعد انتهاء مهامه. لا يُسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه". والرئيس هو "الضامن لاستقلال الوطن وسلامة ترابه ولاحترام الدستور ولتنفيذ المعاهدات وهو يسهر على السير العادي للسلط العمومية ويضمن استمرارية الدولة ويترأس مجلس الأمن القومي"، وهو "القائد الأعلى للقوات المسلحة". وله أن يتخذ تدابير استثنائية في حالة الخطر الداهم، وأن يعرض على الاستفتاء أي مشروع قانون أو مشاريع القوانين المتعلقة بتنظيم السلط العمومية أو المصادقة على المعاهدات، ومن حقّه عرض مشاريع قوانين على المؤسّسة ذات "الوظيفة التشريعية"، فلم تعد هناك سلطات، وإنما هناك وظائف فقط. ويختصّ الرئيس بتقديم مشاريع قوانين الموافقة على المعاهدات ومشاريع قوانين المالية، ويمكنه أن يصدر المراسيم بعد تفويض مجلس النواب وفي حالة الخطر الداهم، وهو من يُبرم الحرب والسلم، ويتمتّع بحق العفو الخاص، وضبط السياسة العامة للدولة وتحديد اختياراتها. وله كذلك أن يختم القوانين الدستورية والأساسية والعادية، وردها إلى مجلس النواب والمجلس الوطني للجهات إن بدا له ذلك ضروريا، والسهر على تنفيذ القوانين وممارسة السلطة التنفيذية. وهو من يعيّن رئيس الحكومة، وبقية أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وإنهاء مهامها أو مهام عضو منها تلقائيا أو باقتراح من رئيسها. وإذا ما قدّم المجلس التشريعي بغرفتيه لائحة لوم ضد الحكومة فلا بدّ من أن تكون معلّلة وممضاة من نصف أعضاء الغرفتين، ويقبل الرئيس استقالة الحكومة التي يتقدّم بها رئيسها إذا وقعت المصادقة على اللائحة بأغلبية الثلثين بالمجلسين، فالحكومة في هذه الحالة، وفق الدستور، لا تسقط بعد أن تسحب منها الثقة من البرلمان والمجلس الوطني للجهات، وإنما تقدم استقالتها للرئيس، الذي يمكنه في حالة تقديم لائحة لوم ثانية في الدورة الثانية النيابية أن يحلّ مجلس النواب أو كلا المجلسين، والدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها بدلا من القبول باستقالة الحكومة. ولا سلطة حقيقية لمجلس النواب ونظيره المجلس الوطني للجهات على الحكومة والوزراء، إذ لا يستطيع أحدهما أو كليهما إسقاط الحكومة أو أحد وزرائها للاستحالة جمع ثلثي المجلسين على موقف واحد، طبقا للقانون الانتخابي الحالي. وإذا ما جرى تغيير هذا القانون سيكون لصالح بناء قوة سياسية تشريعية موالية للرئيس غير معارضة لحكومته، وسيكون دور المعارضة شكليا وكرتونيا، لا يختلف عن معارضة حقبة حكم بن علي. ولم يتبق للمجلس التشريعي بغرفتيه سوى التقدّم بأسئلة كتابية أو شفاهية ودعوة الحكومة أو أحد أعضائها إلى الحوار حول السياسة التي يتمّ اتباعها والنتائج التي وقع تحقيقها، حسب ما ورد في الفصل 114، فقد ولّى زمن مساءلة الحكومات ومحاسبتها، وقريبا ستندثر هذه المصطلحات من القاموس السياسي التونسي.

ولا يقتصر تهميش "السلطة التشريعية"، ونزع أنيابها التشريعية والرقابية وإعطاء الثقة للحكومات وسحبها منها، على صورية المجلسين التشريعيين، وإنما يبرز في ما جاء في الفصل 61 من إمكانية سحب الوكالة من النائب المنتخب، وهو إجراء شعبويٌّ في ظلّ سرية الانتخاب، فعضوية النائب قد تسحبها مجموعات سياسية لم تصوت له أو كانت تعارضه وتنافسه على المقعد، أو بسب عوامل قبلية وصراعات جهوية، أو لأغراض كيدية، هذا إضافة إلى أن النائب المنتخب يضعه الدستور الجديد على الدرجة و"السلطة" نفسيهما، وتولي مهمة التشريع مع عضو المجلس الوطني للجهات (الغرفة الثانية) الذي لا ينتخب انتخابا عاما حرّا مباشرا سرّيا وإنما يُصعّد وفق آليات النظام القاعدي، ليكون ممثلا للمجلس الجهوي بجهته، وللإقليم الذي تنتمي إليه الجهة، ولكن لا تسحب منه الوكالة، شأن رئيس الجمهورية الذي لا يستطيع أحدُ سحب الوكالة منه أو تنحيته من منصبه، حتى إذا ثُبّتت في شأنه الخيانة العظمى.
وفي السياق ذاته، احتقر الدستور الجديد الأحزاب السياسية، ولم يذكرها إلا عرضا في الفصل 40 بالقول "حرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات مضمونة. تلتزم الأحزاب والنقابات والجمعيات في أنظمتها الأساسية وفي أنشطتها بأحكام الدستور والقانون وبالشفافية المالية ونبذ العنف"، وفي الفصل عدد 92 الذي يمنع رئيس الجمهورية من الجمع بين مسؤولياته وأية مسؤولية حزبية، وسكت عن علاقتها بالحكم وتشكيل الحكومة في صورة فوز أحد الأحزاب أو الائتلافات الحزبية المعارضة أو حتى الموالية بأغلبية مقاعد مجلس النواب ومجلس الجهات، فهل سيتقاسم الحزب الفائز الحكم مع الرئيس ويشكّل الحكومة، أم أن الأدوار الحزبية ستكون لضرورات جمالية المشهد السياسي كما هو موقعها في الدستور لا أكثر، إلى أن ينتهي دورها ووجودها المادي، كما بشّر بذلك قيس سعيّد في حوار صحافي نشرته صحيفة الشارع المغاربي في جوان (يونيو/ حزيران) 2019، وتجاهلها الرئيس منذ أكثر من سنة، ولم يرد اسمها حتى في دعوة الناخبين إلى الاستفتاء؟
مشهد سلطوي بامتياز تكتمل صورته بإنهاء تجربة السلطة القضائية وإحلال الوظيفة القضائية محلّها، فلم يعد هناك موقع للمجلس الأعلى للقضاء، رمز السلطة القضائية ومؤسّستها التي تشرف عليها. واكتفى الدستور الجديد بإقرار وجود مجالس للأقضية الثلاثة، العدلي والإداري والمالي، يكون دورها تسييريا وإداريا. أما الكلمة النهائية الفاصلة في تسمية القضاة فهي من مشمولات رئيس الجمهورية بناء على ترشيحات تتقدم بها المجالس القضائية المذكورة وفق مقتضيات الفصل 120. وبإلغاء المجلس الأعلى للقضاء، تنتقل المهام الموكلة إليه إلى السلطة التنفيذية، ممثلة في الرئيس الذي يحتكر التسميات النهائية للقضاة ووزارة العدل التي تتولى تأديبهم عن طريق الملفات التي تعدها التفقدية العامة الراجعة إليها بالنظر، ومن يمتلك تسمية القضاة ونقلتهم وتأديبهم يكون صاحب اليد العليا الذي يمارس نفوذه على القطاع القضائي برمّته.

منح الدستور الجديد انتماء القضاة إلى المحكمة الدستورية دون سواهم، فهذه المحكمة تتركّب من تسعة قضاة تتم تسميتهم بأمر رئاسي، لم تُحدد مدّة ولايتهم، يتوزّعون بالتساوي بين أقدم رؤساء الدوائر بمحكمة التعقيب وأقدم رؤساء الدوائر التعقيبية أو الاستشارية بالمحكمة الإدارية وأقدم أعضاء محكمة المحاسبات، ينتخبون رئيسا لهذه المحكمة من بينهم (الفصل 125)، يمكنه بالإضافة إلى بقية مهامه تولي رئاسة الجمهورية مؤقتا لفترة تمتدّ بين 45 و90 يوما في حالة شغور منصب الرئيس بالوفاة أو العجز أو الاستقالة (فصل 109)، الأمر الذي لا يخلو من تسييس لجهاز يُفترض فيه الحياد المطلق. وقد لقيت هذه المقاربة للمحكمة الدستورية انتقادات شديدة، لتمكين قضاة أوشكوا على التقاعد من العمل احتكار الانتماء إلى المحكمة الدستورية والإشراف عليها، يسهل تحكّم السلطة التنفيذية فيهم لدورها في ترقياتهم وبلوغ الوظائف التي تمكّنهم من عضوية تلك المحكمة، وما قد تحدثه من تنافس نزيه وتآمر وبغضاء في الوقت نفسه وزبونية وولاء، ولإقصاء شرائح أخرى من أهل القانون على غرار المحامين والأساتذة الباحثين بالجامعات المختصين في تدريس القانون وغير القانون، فعضوية المحاكم الدستورية كانت دائما في التجارب الديمقراطية متاحة للحكماء من أهل العلم والمعرفة والخبرة من مختلف مشارب الفكر واختصاصات العلوم الإنسانية والحضارية.
ما تضمنه الدستور من فصول حول الحقوق والحريات مستنسخة في أغلبها من دستور 2014 ومقيّدة بقوانين تيمنا بدستور 1959، تكون أكثر علوية من الدستور نفسه أحيانا، من دون أدنى إشارة إلى الدستورين المذكوريْن، ومن تحديد لانتماء تونس إلى الأمتين العربية والإسلامية على ما فيه من اعتراف بالهوية الحقيقية للشعب التونسي كانت محلّ تشكيك ورفض من نخب سياسية تولت شأن الدولة والحكم في أزمنة سابقة، سيفقد معانيه إن أعاد هذا الدستور التجربة الرئاسوية التوتاليتارية المصحوبة بكل أنواع القمع والاستبداد التي عرفتها تونس نصف قرن أو يزيد (1956-2011)، وسيكون ما تضمنّته التوطئة من قول بـ "حق الشعب الفلسطيني في أرضه السليبة وإقامة دولته عليها بعد تحريرها وعاصمتها القدس الشريف" مجرّد تمويه وشعار للاستهلاك واتّجار بأنبل قضية في الكون، خصوصا وأن الفقرة نفسها تتضمّن التمسّك "بالشرعية الدولية" التي هي، في أحد معانيها، القبول بما جاء في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 181 لسنة 1947 الذي أقرّ تقسيم فلسطين والاعتراف بالدولة الصهيونية ونظيره عدد 242 لسنة 1967 الذي أقره مجلس الأمن الدولي بعد احتلال الضفة الغربية والقدس وغزّة وسيناء والجولان لإضفاء شرعية جديدة على الاحتلال الصهيوني والقرار عدد 338 الهادف لوقف إطلاق النار وحماية "إسرائيل" في ظل تقدّم الجيوش العربية في الحرب العربية الصهيونية سنة 1973.


المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 4