روسيا والصِّين ومعركة البحر الأحمر

اعداد د. علي جمعة ـ بحث من وجهة نظر مراكز البحوث الاميركية

2024.04.01 - 08:49
Facebook Share
طباعة

أطلق الجيشان الأمريكي والبريطاني عمليَّتَهما المشتركة الرابعة ضد الحوثيِّين بسبب عملياتهم في البحر الأحمر, وغابت الصين بشكل ملحوظ عن التحالف، على الرغم من أن نحو 40% من التجارة بين أوروبا وآسيا تمر عبر البحر الأحمر وقناة السويس, واتَّهمت الصين الولايات المتَّحدة والمملكة المتَّحدة, بمهاجمة مواقع عسكريَّة بشكل غير قانوني يستخدمها الحوثيُّون لإطلاق الصواريخ على السفن التجاريَّة, وقال الميجر جنرال "بات رايدر" المتحدث باسم البنتاغون: "نرحب بدور مثمر تلعبه الصين، لكن على حد علمي، في هذه المرحلة لم يعرضوا, ولا يقومون بأي نوع من العمليَّات للمساعدة في حماية البحارة أو الشحن الدولي", وبدا الإحباط واضحاً على السيناتور الجمهوري "ميت رومني" من ولاية يوتا عندما سأل مسؤولي الإدارة, لماذا لا تمارس الصين ضغوطاً على الحوثيين أو إيران, وقال: "الصين هي الدولة التي أفترض أنها الأكثر تأثراً بإغلاق التجارة مع البحر الأحمر، ومع ذلك فإنهم يجلسون على الهامش ويتظاهرون وكأنهم أصدقاء الجميع", وقال "يوان مو"، المتحدث باسم سفارة الصين في واشنطن، لإذاعة صوت أمريكا: "بشكل عام، الصين مستعدة للعمل مع جميع الأطراف لحماية سلامة ممرات الشحن الدوليَّة", وفي هذا الإطار يقول المبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن، "تيم ليندركينغ"، إن الإدارة شهدت "درجة معينة من الاستغلال الحر" من الصين وغيرها, "هذا غير مقبول على الإطلاق, عندما نتحدَّث عن مشكلة دولية تحتاج إلى حل دولي، نحتاج إلى مشاركة الصينيِّين بشكل أكثر قوة", ووفقا لوكالة أنباء شينخوا الصينية، انطلق الأسطول السادس والأربعون لبحرية جيش التحرير الشعبي الصيني من مدينة تشانجيانغ في مقاطعة قوانغدونغ متجها إلى الخليج مؤخراً في ظل الأزمة الحالية في البحر الأحمر, لكنَّ "مايكل أوهانلون"، زميل بارز في السياسة الخارجيَّة في معهد بروكينجز، قال: "هُناك أيضًا تفسير معقول بأنَّهم "أي الصين" يرسلون السفن فقط لجمع معلومات استخباراتيَّة حول أداء تكنولوجيا اعتراض الصواريخ والطائرات بدون طيار الأمريكيَّة", وما يعزز هذه الرواية, الحديث الحوثي على أنَّ السُّفن القادمة من الصين وروسيا, يمكنها المرور بأمان عبر البحر الأحمر ، ويقول مسؤولون استخبارات غربيُّون أنَّ الصين تساعد إيران عن غير قصد, في خنق حركة السفن في البحر الأحمر، ما يعوق تدفقات التجارة العالميَّة, وتَقول شركات الشحن الغربيَّة الكبرى، مثل "ميرسك"، إنَّ البحر الأحمر أصبح الآن محفوفًا بالمخاطر للغاية، وقامت بتغيير مسار سُفنها حول رأس الرجاء الصالح في إفريقيا, وقال "جوليان هينز"، محلل السياسة التجارية في "معهد كيل": "التأثير الرئيسي هو قضاء وقت أطول في البحر", "من المهم جدًا بالنسبة للصين أن تعمل طرق التجارة العالمية دون انقطاع" .


لكنَّ استراتيجيَّة الصين تنتصر في معركة البحر الأحمر, فأمريكا تقاعدت من عملها كشرطي عالمي, فواشنطن، بعد إدراكها لهذه الثغرة الأمنيَّة، حاولت استخدامها كوسيلة ضغط لإقناع بكِّين بالمساعدة في إنهاء الأزمة, فبعض المسؤولين في واشنطن مقتنعون بأنه إذا أرادت ذلك حقًا، فيمكن لبكين الضغط بسرعة على طهران لإنهاء هجمات الحوثيِّين, ويبدو أن بكين لم تتخذ أي خطوة على الإطلاق لمعالجة الوضع, وبدلا من ذلك، دعت واشنطن إلى "تجنب صب الزيت على النار" في الشرق الأوسط, ووصف النائب الديمقراطي "جيك أوشينكلوس"الصِّين في جلسة استماع بالكونجرس بأنَّه, "مثال آخر على المحاولات الخبيثة للقيادة العالميَّة من قبل الحزب الشيوعي الصيني", وبالتالي وصلت الصين إلى النقطة التي تريد من كل ذلك, وهو "الانتقال من القرن الأمريكي إلى القرن الصيني"، وقال "ناثان ليفين" زميل زائر في مركز "بي كينيث سيمون" للدراسات الأمريكية التابع لمؤسسة التراث, أنَّ دول العالم بدأت بالتحول إلى الصين من أجل "القيادة العالميَّة" ، أو على الأقل الانتقال إلى عالم أقدم وأكثر نموذجيَّة، حيث لا يوجد شرطي عالمي، حيث يلتزم الجميع بحماية مصالحهم الوطنيَّة, النقطة الثانية التي حققتها الصين, هو الاستفادة من الوضع الراهن لتعزيز موقفها التجاري, حيث أن شركات الشحن الصينيَّة الأصغر حجمًا, رصدت فرصة تجاريَّة وقفزت لسد الفجوة, وعلى سبيل المثال، سارعت شركة "تشاينا يونايتد لاينز", "CULines"، إلى إطلاق خدمة "البحر الأحمر السريع" التي تربط مدينة جدة في المملكة العربيَّة السعوديَّة بالموانئ الصينيَّة, وبالتالي أصبحت الصين المستفيد الرئيسي من الفراغ الأمني الذي خلفته الولايات المتَّحدة, وليس من المستغرب أن تكون الصين على استعداد لتقبل القليل من الألم الاقتصادي القصير الأمد مع تطور الوضع , ولتعزيز استراتيجية الصين تلك, الأمنيَّة والتجاريَّة في البحر الأحمر, وكدليل على استفادتها من الأزمة, ركَّزت بكين جهودها لتطوير شبكة ربط تجاريَّة واسعة النطاق من الموانئ والمحطات المملوكة للدولة, والتي تمتد من قناة السويس إلى مضيق باب المندب، على ثلاث دول مطلة على البحر الأحمر: مصر وجيبوتي والمملكة العربيَّة السعوديَّة, كذلك عملت على تعزيز وجودها العسكري في بحار المنطقة, وبما أنَّه من المتوقع أن تكون مياه البحر الأحمر وخليج عدن واحدة من بؤر التوتر الجيوستراتيجية والجيواقتصادية الرئيسية للمنافسة بين القوى العظمى، فمن المتوقع أن تعزِّز الصين صورتها كقوَّة تجاريَّة وعسكريَّة ذات ثقل تجاري في هذا الشريان المائي المالح الحيوي الذي يربط اليمن بالبحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي, من خلال النفوذ الاقتصادي والقوة العسكريَّة الناعمة , وما يعزز ذلك أنَّ شركات الشحن الروسيَّة والصينيَّة لا تزالان تبحران بانتظام في البحر الأحمر, لاستخدام طريق قناة السويس المختصر بين آسيا وأوروبا، في حين أن شركات النقل الغربيَّة لا تزال تعتبر هذا الطريق خطيرًا للغاية, وتتخذ طرقًا تحويليَّة أطول وأكثر تكلفة , وقال "ناثان ليفين" زميل زائر في مركز "بي كينيث سيمون" للدراسات الأمريكيَّة, ما لم تتمكَّن الولايات المتَّحدة وحلفاؤها من توحيد جهودهم، فقد ننظر إلى هذه اللَّحظة باعتبارها لحظة تم فيها الكشف عن تحول جيوسياسي واسع النطاق ليراه الجميع .


بالنسبة لروسيا ليس لديها الكثير لتكسبه من اندلاع حرب كبيرة في البحر الأحمر، ما يعني أنَّ جهود واشنطن لوقف هجمات الحوثيين على السفن من المرجح أن تكون موضع ترحيب بهدوء, أو على الأقل من المرجح ألا تعارض موسكو على الإطلاق قيام واشنطن باستعادة النظام في البحر الأحمر, وربما تكون التصريحات التي تأتي من هنا وهناك من الجانب الروسي, ليس سوى تصريحات لاكتساب الجنوب العالمي, والاستفادة من مضاعفة خطابها المناهض للاستعمار، وربما روسيا ستعاني من إغلاق قناة السويس, ويتم إرسال معظم صادرات النفط الروسية إلى الهند, "التي تعد حاليا أكبر مستورد للهيدروكربونات الروسية", عبر القناة, ويعادل ذلك ما يصل إلى 3 ملايين برميل من النفط يوميًا، أي حوالي ثلث صادرات روسيا من النفط الخام, فإذا تم إغلاق قناة السويس، فسوف تضطر روسيا إلى إرسال ناقلاتها على طول الطريق حول أفريقيا للوصول إلى الهند, وإن أسطولها من الناقلات ليس كبيراً بما يكفي للحفاظ على حجم الصادرات الحالي إذا حدث ذلك، كما أن الحصول على المزيد من المصادر لن يكون بالأمر الهين: فالطلب على الناقلات سيكون مرتفعاً للغاية في مثل هذا السيناريو، لأنَّ روسيا ليست الدولة الوحيدة التي تنقل النفط عبر قناة السويس .


لكنَّ بعض التحليلات الغربيَّة تقول أنَّ معركة البحر الأحمر بالنسبة للروس مفيدة لهم اقتصاديَّاً, وربما تستغل موسكو هذه اللحظة للترويج لطريق تجاري بديل آخر: "ممر النقل بين الشمال والجنوب" الذي يربط روسيا بالمحيط الهندي عبر إيران, ووفقاً للسياسي القومي ليونيد سلوتسكي، فإن هذا الطريق يمكن أن يكون "بنية تحتية لوجستية جديدة لأوراسيا", وأيضاً تستفيد روسيا من تفكيك الهيمنة الأمريكيَّة, عبر تأطير أحداث البحر الأحمر, وتذهب بعض مراكز الدراسات إلى القول أنَّ روسيا عبر طهران تقدم معلومات إلى الحوثيين, معلومات أمنية للمواجهة من جهة, ولعدم استهداف السفن الروسيَّة من أخرى, كذلك تشير تلك الدراسات إلى أنَّ روسيا أيضاً ستمتلك قريباً قاعدة عسكريَّة هناك، على مداخل البحر الأحمر في السودان, بعبارة أخرى، هناك تحرُّك نحو سيناريو تستطيع فيه روسيا وإيران والصين, قطع أحد الشرايين التاجيَّة للاقتصاد العالمي، أو على الأقل تعطيله بشدَّة، مع كل العواقب الاقتصاديَّة والسياسيَّة , وبالتالي ستحافظ روسيا على مكانتها كقَّوة عظمى, وتعزيز موقفها المناهض للغرب، وستسعى لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسيَّة للممر المائي للبحر الأحمر, من خلال الاختراق العسكري والاقتصادي, وعلى عكس التكرارات السابقة للسياسة البحريَّة الروسيَّة، تُظهر أحدث وثيقة للتخطيط الاستراتيجي, تحوُّل روسيا المفاجئ نحو نهج عسكري قوي, ومواجهة لتأمين أهدافها الوطنيَّة في المياه الدوليَّة، فالبحر الأحمر هو المكان الذي تستطيع فيه روسيا الجمع بين كل عناصر تفكيرها البحري الاستراتيجي في معادلة واحدة, وبسبب افتقارها إلى البنى التحتيَّة البحريَّة القادرة على دعم محورها في المحيط الهادئ بشكل هادف، سعت روسيا إلى تعويض هذا الخلل الاستراتيجي من خلال تأمين موطئ قدم بحري على البحر الأحمر, ومع اعتراف الولايات المتَّحِدة والدول الأوروبيَّة بالترابط الوثيق بين أولوياتها الوطنية والديناميكيات الجيوسياسيَّة للمحيط الهندي والهادئ، تنظر روسيا على نحو متزايد إلى هذه المياه كمساحة للمواجهة مع الغرب , علاوة على ذلك، تسعى روسيا إلى عمل مناورات مشتركة مع إيران والصين, للتأكيد على التوافق الاستراتيجي معهم, وتكلَّل ذلك بأن أجرت سفينتا "فارياج" و"مارشال شابوشنيكوف" الروسيتين مناورات مشتركة مع إيران والصين، ما يؤكد التوافق الاستراتيجي معهم , ويقول الدكتور "مارتن بلوت": "هناك نوع من التآزر حول رغبة روسيا في رؤية تفكيك نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية, الذي لم يعد يمنحها امتيازات تتجاوز حق النقض في مجلس الأمن، ورغبات أفريقيَّة في رؤية إصلاح المؤسَّسات المتعدِّدَة الأطراف التي تم إنشاؤها قبل معظم الدول الأفريقيَّة حتى قالت "ميشيل جافين" من مركز العلاقات الخارجيَّة: "كان الأمر موجودًا", وهذا ما ترجم في العلاقة مع أريتيريا, والسودان, وقال "اللورد جولدسميث" في 7 أبريل 2022م: "إن روسيا سعت منذ فترة طويلة إلى تحقيق مصالحها على البحر الأحمر", نحن نراقب باستمرار التطورات في المنطقة", وإذا مضى المخطط الروسي لبناء قاعدة بحريَّة على "دهلك" قدما، فسيكون ذلك بمثابة تحقيق لهذه الطموحات التي طال أمدها، ومطابقة الأساطيل الأجنبية الأخرى التي لها وجود في المنطقة، بما في ذلك القواعد الأمريكيَّة والصينيَّة والفرنسيَّة في جيبوتي, ومن شأنه أن يمنح الرئيس بوتين خيار التدخُّل في هذا الممر المائي الحيوي , وبالتالي تخدم معركة البحر الأحمر توجهات فلاديمير بوتين في الحرب الباردة على أفريقيا ، كذلك الاستفادة منها في معركتها في أوكرانيا, حيث أنَّه وعلى الرغم من أنَّ إجمالي كميَّة البضائع المنقولة عبر روسيا "خاصة السكك الحديدية غير المشمولة بالعقوبات الغربيَّة", غير واضحة منذ بدء هجمات الحوثيين، إلَّا أنَّه وحسب التقارير الغربيَّة, من المرجَّح أن يتم استخدام أي أرباح ناتجة حصلت عليها عدة شركات ومنها "شركة RZD"، لمواصلة تمويل حرب روسيا في أوكرانيا , خاصة مع وجود العديد من الأسباب, وراء استمرار السفن الروسية في الإبحار بالبحر الأحمر, استغلال العلاقة مع إيران لعدم استهداف السفن الروسيةَّ, واستغلال استراتيجية فريدة من نوعها وهي استخدام روسيا "أسطول الظل", وتتكون هذه السفن من ناقلات قديمة تم شراؤها في الغالب بعد عام 2022م، وهي أبطأ وتصعب صيانتها, ومع ذلك، فإن الأهم من ذلك أنَّهم يفتقرون إلى الروابط المباشرة مع إسرائيل، ما يجعلهم محصَّنين ضد هجمات الحوثيين التي تستهدف السفن المرتبطة بإسرائيل . 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 1