في تطور غير مسبوق في تاريخ العلاقات السورية – الأميركية، شهد البيت الأبيض في العاصمة الأميركية واشنطن، يوم الإثنين، لقاءً تاريخياً بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع، في أول زيارة رسمية لرئيس سوري إلى الولايات المتحدة منذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل أكثر من ستين عاماً.
الزيارة، التي جاءت بعد أقل من عام على إسقاط نظام بشار الأسد، تمثل حدثاً استثنائياً في المشهدين الإقليمي والدولي، إذ تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون بين دمشق وواشنطن بعد عقود من القطيعة، والتوتر، والعقوبات.
استقبال رسمي في البيت الأبيض وزيارة غير مسبوقة
بحسب بيان رسمي صدر عن وزارة الخارجية والمغتربين السورية، فإن الرئيس السوري أحمد الشرع وصل إلى البيت الأبيض في زيارة رسمية، حيث كان في استقباله الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
وقد وصفت دمشق اللقاء بأنه «تاريخي بكل المقاييس»، مشيرة إلى أنه يمثل «انعطافة في مسار العلاقات بين البلدين».
وأكدت الخارجية السورية في بيانها أن الرئيس ترمب عبّر عن إعجابه بالقيادة السورية الجديدة وبالشعب السوري، مشيداً بجهود سوريا «في قيادة المرحلة السابقة بنجاح»، في إشارة إلى مرحلة الانتقال السياسي التي أعقبت سقوط النظام السابق.
لقاء مغلق استمر ثلاث ساعات
وفق ما أفادت به مصادر إعلامية، فقد استمر اللقاء في البيت الأبيض قرابة ثلاث ساعات كاملة.
ودخل الرئيس الشرع إلى المقر الرئاسي الأميركي من الباب الخلفي للبيت الأبيض بعيداً عن أعين الصحافة، حيث لم يُسمح لأي وسيلة إعلامية بتغطية اللقاء مباشرة.
وبعد انتهاء الاجتماع، صدرت تصريحات وبيانات رسمية من الجانبين السوري والأميركي لتأكيد ما دار في المباحثات.
ترمب: دعم كامل للبناء والتنمية في سوريا
جاء في بيان وزارة الخارجية السورية أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أكد خلال لقائه بالرئيس الشرع استعداد الولايات المتحدة لتقديم الدعم اللازم الذي تحتاجه القيادة السورية لإنجاح مسيرة البناء والتنمية في البلاد.
وأضاف البيان أن الجانبين اتفقا على المضي في تنفيذ اتفاق العاشر من آذار، وهو الاتفاق الذي يتضمن دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن صفوف الجيش السوري، وذلك في إطار عملية توحيد المؤسسات العسكرية وتعزيز الأمن الوطني.
وأشار البيان أيضاً إلى أن الجانب الأميركي أكد دعمه للتوصل إلى اتفاق أمني مع إسرائيل بهدف تعزيز الاستقرار الإقليمي، في خطوة وُصفت بأنها بداية مسار تفاهمات أمنية جديدة بين أطراف المنطقة برعاية واشنطن.
اجتماع ثلاثي لمتابعة الاتفاقات
وبتوجيه مباشر من الرئيس ترمب، انعقد في اليوم نفسه اجتماع ثلاثي موسّع ضم وزراء الخارجية السوري أسعد الشيباني، والتركي هاكان فيدان، والأميركي ماركو روبيو، وذلك لمتابعة ما تم الاتفاق عليه بين الرئيسين الشرع وترمب، ووضع آليات تنفيذية واضحة لهذه التفاهمات.
وأكد بيان الخارجية السورية أن الرئيس ترمب أعرب عن استعداده لدعم جهود النهضة والاستثمار في سوريا، مع التزام الولايات المتحدة بالمضي في رفع العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر، بما يتيح تعزيز فرص التنمية وجذب الاستثمار الأجنبي، وإعادة دمج الاقتصاد السوري ضمن النظام المالي العالمي.
ترامب: سوريا جزء مهم جداً من الشرق الأوسط
وفي تصريحات مقتضبة للصحفيين في البيت الأبيض عقب اللقاء، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إنه على «وفاق تام مع الرئيس السوري أحمد الشرع»، مضيفاً أنه «يثق بقدرة الرئيس الشرع على أداء مهامه وقيادة بلاده بنجاح».
وأكد ترمب أن سوريا «جزء مهم جداً من الشرق الأوسط»، وأن الإدارة الأميركية «ستعمل كل ما في وسعها لجعل سوريا دولة ناجحة».
وأضاف أن التعاون مع إسرائيل «يمضي بشكل جيد»، مشيراً إلى أن هناك إعلانات قريبة تتعلق بالشأن السوري سيتم الكشف عنها في وقت لاحق.
وقال الرئيس الأميركي: «في سوريا كثير من العقول العظيمة، والرئيس الشرع رجل يعرف كيف يوظف هذه العقول من أجل مستقبل بلاده»، مضيفاً في تعليق على خلفية الشرع السياسية: «يقولون إن للرئيس الشرع ماضياً قاسياً، لكننا جميعاً نملك ماضياً صعباً، والمهم هو المستقبل».
الشرع: زيارة واشنطن تُدخل سوريا مرحلة جديدة
من جانبه، وصف الرئيس السوري أحمد الشرع زيارته إلى واشنطن بأنها «تاريخية» و«فاتحة لمرحلة جديدة من العلاقات الدولية»، مشيراً في مقابلة مع قناة فوكس نيوز الأميركية إلى أن «هذه هي المرة الأولى منذ أكثر من ستين عاماً يزور فيها رئيس سوري البيت الأبيض».
وقال الشرع: «منذ عقود كانت سوريا بعيدة عن واشنطن، ومعزولة عن معظم دول العالم. أما اليوم فنحن نفتح صفحة جديدة قد تغيّر شكل المنطقة».
وأكد الرئيس السوري أن بلاده لم تعد تُرى كتهديد أمني، بل «كبلد يمكن أن يكون شريكاً اقتصادياً ووجهة للاستثمار»، خصوصاً في مجالات الطاقة واكتشاف الغاز.
كما شدد على ضرورة التعاون المباشر مع الولايات المتحدة في محاربة تنظيم داعش، معتبراً أن «أي حوار فعّال حول الأمن الإقليمي يجب أن يتم بين الحكومتين مباشرة».
الموقف من إسرائيل: لا مفاوضات مباشرة حالياً
وعن الموقف من إسرائيل، أوضح الشرع أنه لا توجد نية حالياً للدخول في مفاوضات مباشرة، مبيناً أن «الوضع السوري يختلف تماماً عن أوضاع الدول التي انضمت إلى اتفاقات أبراهام».
وأضاف: «إسرائيل ما تزال تحتل أراضٍ سورية منذ عام 1967، ولذلك لا يمكن الحديث عن مفاوضات مباشرة في الوقت الراهن».
وأشار إلى أنه من الممكن مستقبلاً أن تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط في أي تفاهمات مستقبلية، لكن هذا الأمر «ليس مطروحاً حالياً».
قضية المفقودين والرهائن الأميركيين
وفي الشق الإنساني، تعهد الرئيس السوري أحمد الشرع ببذل كل الجهود الممكنة لتقديم معلومات تساعد في كشف مصير الصحفي الأميركي أوستن تايس، إضافة إلى المواطنين الأميركيين الآخرين المفقودين خلال الحرب في سوريا.
وقال الشرع إن في سوريا نحو 250 ألف مفقود لم يُعرف مصيرهم بعد، مشيراً إلى أن هذا الملف «سيكون من أولويات الحكومة السورية الجديدة ضمن مسار العدالة الانتقالية».
رفع القيود عن البعثة السورية في واشنطن
وأعلن وزير الخارجية والمغتربين السوري أسعد الشيباني أنه تسلّم قراراً رسمياً موقعاً من نظيره الأميركي ماركو روبيو يقضي برفع جميع الإجراءات القانونية المفروضة سابقاً على البعثة الدبلوماسية والسفارة السورية في الولايات المتحدة.
وقال الشيباني في منشور عبر حسابه الرسمي على منصة (إكس):
«اليوم تعود لسوريا القدرة على ممارسة دورها الدبلوماسي بحرية كاملة على الأراضي الأميركية، ضمن خطة وزارة الخارجية السورية الاستراتيجية».
وأكد الوزير أن اللقاء بين الرئيسين ترمب والشرع كان «بناءً واستراتيجياً» وجاء «بعد تحضيرات مكثفة استمرت لأشهر».
وأضاف أن المباحثات تناولت «الملف السوري بكل تفاصيله، والتأكيد على دعم وحدة سوريا، وإعادة إعمارها، وإزالة العقبات أمام نهضتها المستقبلية».
وختم قائلاً: «الشعب السوري يستحق دائماً مستقبلاً أفضل».
تداعيات اللقاء وملامح المرحلة المقبلة
يشير مراقبون إلى أن هذا اللقاء قد يشكل منعطفاً تاريخياً في العلاقات بين دمشق وواشنطن، إذ يمهّد لتعاون سياسي واقتصادي وأمني لم يكن متصوراً قبل عام واحد فقط.
ويرى محللون أن رفع العقوبات وتوحيد المؤسسات العسكرية وإعادة دمج سوريا في النظام الدولي قد تفتح الباب أمام مرحلة إعادة الإعمار الكبرى، مع احتمال انفتاح استثماري تقوده شركات أميركية وغربية في مجالات الطاقة والبنى التحتية.
بهذا اللقاء التاريخي، تدخل سوريا مرحلة جديدة من علاقاتها الدولية، وتبدأ واشنطن اختبار نهج دبلوماسي جديد مع دمشق، يقوم على الشراكة بدل العداء، وعلى التنمية بدل الصراع.
وبينما يترقب العالم خطوات التنفيذ المقبلة، تبدو ملامح الشرق الأوسط في طور إعادة التشكّل، حيث تتحول سوريا من ساحة حربٍ إلى محورٍ للتفاهمات والتوازنات الجديدة.