المُبشّر المُنذِر أو .. "عصر الدهشة الأولى"

علي حسّون

2020.07.29 - 10:44
Facebook Share
طباعة

 في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، لم يكن عمري قد تجاوز التسع سنوات حينها، كان احتكاكي الأول مع ما ستصبح مهنتي التي أمارسها منذ عشرين عاماً بالتمام.
في مثل هذه الأيام، كانت البلاد قد بدأت تخرج من نفق الموت الناتج عما يعر فه السوريون ب"أحداث الثمانينات" لتستعد لموعدٍ لم يكن أقل أهميةً في ذلك الزمن؛ حيث سيتم الإعلان عن نتائج الشهادة الإعدادية التي كانت تعادل في قيمتها وقتذاك وبدون مبالغة الشهادة الجامعية.
حينها لعبتُ دور الصحفي لأول مرة؛ وأنا الذي كبرت وأنا أسمع من أهلي أنني الطفل الأكثر فضولاً وحساسيةً تجاه ما يجري حوله، والباحث عن الأخبار حتى في دكان "علي ونوس" الذي كان يتوسط القرية ويمثل بالنسبة لأهاليها حينذاك وسيلة الإعلام الحصرية، فتُنشَر على جدرانه نعوات الموتى والشهداء، ونتائج الشهادتين الإعدادية والثانوية، وكذلك الموعد القادم لاستلام "إعاشة" الرز والسكر عبر دفاتر البونات .
فيما بعد أطلق عليّ أخوتي الأكبر سناً من باب السخرية اسماً مركباً: "عصر الدهشة الأولى"! نعم كانوا يسمونني بهذا الاسم الغريب نظراً لما كانوا يعتبرونه اندهاشي الذي يترافق دائماً مع فم مفتوح حتى النهاية وعينين جاحظتين بحجم غرابة الخبر الذي لم يكن – ياللغرابة - كذلك بالنسبة إليهم وللآخرين، حيث كان وقع الخبر نفسه عليهم عادياً أو لنقل "أقل وطأةً".
في الواقع كان الجميع يندهش من اندهاشي المتبوع بحزن مقيم، ومن مشهد فمي الفاغر وعينيّ المفتوحتين حتى النهاية لدى سماعي عن موت فلان أو القبض على فلان وهو يسرق من بيت أو أرض فلان أو عن علاقة فلان وفلانة التي تكلّلت بطفل "حرام" !
في ذلك الصيف من عام 1981 كان عليّ الاستعداد للحظة "تاريخية" بالنسبة لي "كمراسل" وأيضاً لـ"الجمهور" ، ففي اللحظة التي كان فيها مندوب من مديرية التربية يقوم بلصق الورقة الوحيدة التي تضم أسماء الناجحين في الشهادة الإعدادية، تلقفتُ الأسماء وحفظتُ كل اسم منها والعلامة التي نالها الطالب، وبالتالي حصرتُ أسماء الطلاب غير الناجحين.
حملت أخباري الطازجة وعدت مسرعاً إلى واجهة بيتنا المطلة على الطريق العام، والذي كان قد بدأ يشهد الحركة القلقة لأهالي الطلاب المتقدمين لامتحانات الصف التاسع، لمحتُ عن بعد "أم وديعة" بوجهها الأحمر - لم أعلم حينها سبب احمرار وجهها؛ هل هو بسبب المشي الطويل من "نزلة البياضة" في أقصى القرية تحت شمس آب اللاهبة؛ أو توهجاً بسبب اطمئنانها لنتيجة ابنتها الكبرى-
كانت المسكينة تجاهد للوصول إلى دكان علي ونوس في موعد مفتَرض مع الفرح، فيما كنت أنا على موعد مع أول سبق صحفي حين باغتتها على حين غرة سائلاً إياها : "أم وديعة .. هل أنتِ ذاهبة من أجل نتيجة وديعة" ، فتوقفت المرأة دون حراك لتجيبني متوسلةً خبر نجاح ابنتها : "أي والله" ، فأبلغتها رسالتي الخبرية الموكّدة في كلمتين: " رسْبت رسْبت" ولأشعر بالزهو لكوني أول "المخبرين" .. زهوٌ لم يعكره سوى صراخ المرأة التي تغيرت ملامحها وانقلب الأحمر الوردي على وجهها إلى أصفرٍ شاحب؛ ولتصعقني بردٍ لم أفهمه أو أعرف مبرراً له وقتها وأنا الذي لم أفعل لها شيئاً سوى أن "بشّرتها" بنتيجة وديعة؛ فتجيبني بأعلى صوتها : "الله لا يسعِد بشايرك" !!
منذ ذلك الحين كان مقدراً لي أن أتوجه إلى هذا النوع من العمل المذموم ، ومنذ تلك "البشارة" التي علمتُ فيما بعد أنها ليست بشارة وإنما هي أشبه ب"إعلان حرب" على الناس، عرفت أنني سأكون ذلك الشخص الذي سيكون عليه لبقية حياته أن يخبر السوريين بأنهم رسبوا في امتحان التنمية ورسبوا في امتحان التعايش وفي امتحان الحياة، ما زلت ذلك."الغراب" الذي "يبشّرهم" بأسوأ الأخبار.. تلك الأخبار الحقيقية، ولكن، المكروهة. بالرغم من ذلك، ما زلت "عصر الدهشة الأولى" الذي يفتح فمه للنهاية وعينيه إلى الحد الأقصى للجحوظ مع كل خبر موت لأي سوري أو خبر سرقة فلان لمال "الفلانات" العامة أو للعلاقة "الحرام" بين رجل السياسة ورجل المال..!
وها أنا ذا أقارب نصف قرنٍ من عمري قضيته فاتحاً فمي وجاحظاً عيني الحزينتين إلى أقصاهما، حتى استحال وجهي أشبه بوجه ملك فرعوني محنّط مات قبل أوانه.. والأسوأ قبل أن تمنحه الحياة فرصةً لتحذير قومه وأحبائه من الاندثار القادم !

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 6