الحزب القائد.. عائد؟

علي حسون

2020.10.22 - 01:20
Facebook Share
طباعة

 
 
لم تُغرِني أية مدفأة للانتساب إلى أي حزب سياسي، كما حصل مع الأديب الكبير محمد الماغوط حين اختار الانتساب إلى الحزب القومي السوري بدلاً من حزب البعث العربي الاشتراكي، بسبب وجود مدفأة في مقر القوميين السوريين .
كنتُ وما زلت أفضّل صقيع سورية وشمسها الحارقة على كل المدافئ والمكيفات السياسية التي تدجّن العقل وتختصر الوطن في شخص "الزعيم القائد".
لكن ذلك لم يُنجني من التنسيب القسري إلى صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي في منتصف ثمانينات القرن الماضي، حين كان البعث هو سورية، وسورية هي البعث، ولا فكاك من الانتساب إلى حزب العمال والفلاحين والطلاب والمثقفين، التجار و"صغار الكسبة" وعموم السوريين.
ما زلت أذكر اليوم الذي أُجبرت فيه على الانتساب إلى حزب البعث، كنت مراهقاً في الصف الثالث الإعدادي حين دخل أحد "الرفاق الحزبيين" إلى الصف. وزّع على الطلاب جميعاً ورقة للانتساب دون أن يكون لديهم الخيار بالرفض، وهو وإن كان ممكناً فرضاً كما يمكن أن يحاجج "الرفاق البعثيون" فإن أحداً لم يتجرأ على الرفض في ذلك الزمن، لأن هذا يعني أن تُتهم وعائلتك بأنكم "عملاء للامبريالية العالمية والصهيونية وأذيالهما من الرجعية العربية العفنة".
في الواقع، لم يكن ينقص عائلتي مثل هذه التهمة التي كانت "ثابتة" عليها بالفعل، نظراً لأن اثنين من أعمامي كانا حينها "ضيوفاً" في سجن صيدنايا "ذائع الصيت" بتهمة الانتساب لحزب العمل الشيوعي، فكانت الأحاديث الدائرة حينها في أوساط الناس - وبتوجيه من الرفاق البعثيين- أنهما "عملاء لليهود" ومخربون يريدون قلب نظام الحكم بالعنف والتآمر ؟!
إذاً، أصبحتُ عضواً "نصيراً" في الحزب القائد لمجرد امتناعي عن الرفض، رغم أن شروط الانتساب لم تنطبق عليّ؛ وربما على الملايين من السوريين غيري كما سيتضح لاحقاً، ولكن هذا لم يكن مهماً في سبيل زجّ وتعبئة أكبر عدد ممكن من "الرفاق البعثيين" الذين سيشكلون أغلبيةً ساحقة من سكان سورية، ومن أقصاها إلى أقصاها، والذين يُعوّل عليهم في مواجهة "كل مؤامرات الكون" على البلد التقدمي الوحيد في المنطقة؛ "بهمّةٍ لا تلين"!
لم يشكّل رفضي الضمني وعدم تطابق مواصفاتي مع المواصفات والشروط التي يتطلبها الانتساب للبعث أية مشكلة لدى الرفاق، طالما زاد رقمٌ في عدد المنتسبين للحزب الأوحد، فأنا لم أكن "مؤمناً بعقيدة الحزب وأهدافه ومنهاجه وسياسته ونظامه الداخلي، ولم أكن مستعدا لتنفيذ قراراته" لسبب بسيط؛ وهو أنني لم أكن أفهمها حينها!.
كما أن أحداً لم يسألني إن كنت "مؤمناً بالقومية العربية"، أو "ملتزماً بمبدأ الديمقراطية المركزية والقيادة الجماعية والتنظيم الجماهيري" أو "مستعداً لممارسة النقد والنقد الذاتي" وهذه الأخيرة تحديداً تتسبب لي حتى اليوم بطفح جلدي، فأنا فاشل تماماً في النقد الذاتي والاعتراف بأخطائي، ومصنّف ضمن هواة "النقد التدميري"!.
الأهم من كل ذلك، أنني لم أكن "مستعداً لتسديد الاشتراكات المتوجبة عليّ وفقاً لأحكام النظام الداخلي" ذلك أن مصروفي اليومي حينها لم يكن يتجاوز الليرة الواحدة في اليوم، وبالتالي لا قدرة ولا رغبة لي على "تجميع الخرجية" وهدرها كرمى عيون الحزب القائد بدلاً من صرفها على "ملذاتي الشخصية".
ومن أجل كل ما سبق، ولسببٍ أكثر أهميةً، لم أحضر أياً من اجتماعات الحزب، إذ طالما شعرت بالازدواجية الناجمة عن أنني أنتمي إلى عائلة "صوفتها حمرا" وتتهمها السلطة وحزبها القائد بأنها "شيوعية" و"مخرّبة" وقد عاقبتها تحت هذه التهمة بالسجن والوصمة، ومع ذلك  تريد من أبنائها الانتساب لحزبها ودفع الاشتراكات لصالحه!
أنتجت هذه السياسة كما يعلم كل سوري – بالتجربة – أن صار كل مواطن سوري عضواً في حزب البعث من المهد إلى اللحد، فسياسة الحزب كانت واضحة من خلال تنسيب الشعب السوري برابط الحزب الذي عمل على ربط المدارس الابتدائية والتعليم الأساسي بمنظمة طلائع البعث التي تم تأسيسها عام 1974 لتمثل المؤسسة الفكرية للطفولة التي يبث من خلالها أفكاره، في غياب أي بديل آخر أو فكر منافس بحكم الدولة وسلطة القانون، وتحت شعار "الرفيق الطليعي هو الدرع الحصين للأمة العربية، وأملها في المستقبل".
وما أن ينضج هذا الطفل ليصل للمرحلة الإعدادية، حتى يتم نقله لمؤسسة أخرى تناسب فكره، وتبني على ما أُسس عليه من أفكار ألا وهي "اتحاد شبيبة الثورة" التي تم تأسيسها عام 1970، لتكون "الراعية والمشرفة على جميع الأنشطة الطلابية، والممثلة للطلاب في اللجان والمجالس المدرسية، ولتشغل المراهق بالثقافة القومية والشعارات الرنانة ضد الاستعمار والرجعية" .
وبعد أن يدخل "الرفيق الحزبي" إلى الجامعة، يرتبط بالفرق الحزبية التابعة للجامعات ليكمل مسيرته الحزبية ويتخرج من الجامعة مع أولوية سواء بالمسابقات الوظيفية أو التعيينات والترقيات، ويدخل سوق العمل، ليجد أن الحزب متغلغل في قطاعات الدولة من خلال ربط الوزارات الحكومية بالفرق الحزبية عبر المؤسسات العامة الحكومية، وربط المحافظات والإدارات المحلية بفروع الحزب بالمحافظات، ليكون أمين فرع الحزب مرادفاً للمحافظ  وأكثر تأثيراً منه في الكثير من المفاصل والملفات.
شخصياً، لم أمر بكل المراحل السابقة، حيث تم فصلي على عجل، ليس لأنني لم أحضر الاجتماعات، أو لأنني لم أؤمن بالبعث ورسالته الخالدة، بل لأنني ببساطة لم أدفع الاشتراكات المتوجبة عليّ.
لعل سياسة البعث في ضم "الجماهير" تقدم مثالاً على كيفية تضخم البعث وتحوله إلى كيان مترهل ببنية تنظيمية هشّة، يعج بالمنتفعين والباحثين عن وظيفة أو منصب أو نفوذ، ليتضح ذلك جلياً عقب الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في 2011 عندما انشق آلاف البعثيين عن حزبهم القائد، وشارك كثيرون منهم في المظاهرات، وانقلب مسؤلوون في البعث على البعث مع أول فرصة لاحت أمامهم.
واليوم، ورغم كل ما حدث خلال السنوات العشر الأخيرة، يبدو أن "البعث" لم يتعلم مما حدث، ولا يزال مصراً على "قيادة الدولة والمجتمع"، فرغم حذف المادة الثامنة من الدستور التي تقول بأن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع، ورغم أن معظم السوريين؛بمن فيهم البعثيين أنفسهم يقرّون بأن أهداف البعث القومية والعروبية لم تعد قابلة للحياة والاستمرار، أو للتحقق حتى على مستوى سورية، التي تضم خليطاً من القوميات والأعراق، فما بالك بـ"الأمة العربية الواحدة"! رغم ذلك فإن مسيرة البعث وسياسته توحي بأنه لا زال يمارس سياسة الإنكار والإكثار، إذ إن سياسة "التنسيب" مستمرة بين الأطفال في المرحلة الابتدائية ممن لا تتجاوز أعمارهم الست سنوات ضمن صفوف "طلائع البعث" التي تعد بنية تحتية للحزب، حيث يتكرر هذا المشهد في العديد من المحافظات السورية، وبحضور شخصيات بعثية رفيعة.
ويشكل هذا "التنسيب" القسري انتهاكاً لحقوق الطفل الذي نصت عليها "اتفاقية حقوق الطفل عام 1989"، وما ذكر في المادة (12- 13 -14)  من الاتفاقية، التي تفيد بأن تكفل الدول للطفل القادرعلى تكوين آرائه الخاصة حرية التعبير، كما أن تحترم حق الطفل في حرية الفكر.
في السياق نفسه، مازال "البعث" يستأثر بالتمثيل النيابي عبر ما يعرف بقوائم "الوحدة الوطنيّة" الانتخابية الناجحة سلفاً في أي انتخاباتٍ تشريعيّة أو بلديّة، إضافةً إلى الامتيازات والصلاحيات في العديد من المفاصل والقطاعات.
ثمة من يرى أن عملية تطويع البعث بما يناسب الظرف السوري الراهن ومستقبل العملية السياسية في سوريا تجري اليوم بهدوء، ويشير هؤلاء إلى إلغاء "القيادة القومية والقطرية" واستبدال "القيادة المركزية" باعتباره دليلاً على محاولة البعث "التأقلم مع المستجدات والتحضير للمستقبل" .
وفي هذه المرحلة، حيث يجري الحديث عن محاولات الدول الفاعلة حلحلة الملف السوري، والتوافق على ما يجب أن يكون حل سياسي يضمن التعددية السياسية، تتجه الأنظار إلى مصير حزب "البعث" عقب أي اتفاق محتمَل .
لا شك أن معظم معارضي النظام، بل وبعض المؤيدين للدولة من غير البعثيين يمنّون النفسَ بأنّ أي حل سياسي في سوريا مستقبلًا سوف ينهي أي دور للبعث في مستقبل سوريا، بما يشبه التجربة العراقية، عبرحظر البعث ومنعه من المشاركة في الحياة السياسية، فيما يرى آخرون أن استمرار الحزب سياسياً "أمر مهم"، "كون أفكار الحزب ونظرياته تجاه "الهوية العربية" ليست مسألة "أيديولوجية" فحسب، بل هي هوية وطنية قادرة على جمع السوريين مجدداً للتعايش مع بعضهم".
وبغض النظر عما يُخطط لمستقبل سوريا، ورغبات السوريين التي لم ولن تكون أولوية لدى القوى الفاعلة في الملف السوري، وبحكم الواقع الحالي الذي أفضت إليه حرب التسع سنوات، يبدو "البعث" واثقاً من دورٍ كبير في المرحلة المقبلة، ذلك أن "قوة البعث" وبنيته التحتية وقواعده التنظيمية تسمح له بالعبور في أي اتفاق مقبل على حل سياسي، ما يضمن حضوراً فاعلاً لحزب البعث بطبيعة الحال، باعتباره الحزب الحاكم الذي ينتمي إليه رئيس الجمهورية الحالي.
لكن الأكيد أن هذا الدور والحضور مهما كانت قوته ومساحته، لا يمكن أن يشبه سابقه، بخطابه الذي أكل عليه الزمان وشرب، أو بهيمنته القسرية على الحياة السياسية والاقتصادية لدرجة ابتلاعه للدولة ومؤسساتها.
بالمختصر؛ على "البعث" إن كان يعدّ نفسه لدخول سوريا المستقبل أن يبدأ بتغيير شامل ومراجعة جذرية حقيقية لكل الممارسات والآليات التي أوصلت سوريا الدولة والشعب إلى ما هي عليه الآن، وعندها سيكون حزباً جديداً لا يشبه ذلك الحزب "التليد" الذي خبِره معظم السوريين باعتباره وصياً وحيداً على الوطن والشعب والمستقبل ؟.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 7