في ذكرى حرب تشرين .."كاسك يا وطن"!

كتب علي حسون

2020.10.06 - 11:53
Facebook Share
طباعة

 في مثل هذه الأيام قبل 47 عاماً، وتحديداً في اليوم الرابع على انطلاق حرب تشرين 1973، استشهد والدي على خط الجبهة الأمامي.
لم أعرف والدي حقاً، ولا أتذكر أي تفاصيل تجمعني به. حينها لم أكن قد أكملت العامين، أما والدتي المفجوعة باستشهاده، وهي ابنة ال27 عاماً التي تكفلت بدور الأم والأب معاً لسبعة أطفال كان أكبرهم في الثانية عشر من عمره، وأصغرهم مازال جنيناً في بطها، فلم تتحدث كثيراً عنه، إلا بعد مرور سنوات طويلة.

المعلومة الوحيدة التي كنت أعرفها عن والدي الشهيد أنه ووري الثرى في مقبرة الشيخ مسكين في ريف درعا، قريباً من مكان استشهاده، وأن عائلتي لم تسمع بخبر استشهاده إلا بعد دفن جثمانه بنحو شهرين.

أمضى أبي حياته متنقلاً بين الجبهات والثكنات، وهو الذي كان يخدم في إحدى كتائب الاستطلاع التابعة للجيش السوري، بدءاً من الخوخدار إلى اسكوفيا في الجزء المحتل من الجولان بداية الستينات، ثم في القامشلي ومنها إلى حلب فدرعا، ليدخل مع الجيش السوري إلى شمال الأردن لمؤازرة الفدائيين الفلسطينيين إبان مجزرة "أيلول الأسود"، وأخيراً في السويداء على خط الجبهة الأمامي ضد قوات الاحتلال الصهيوني، حيث قضى هناك بعد إصابته بشظايا قذيفة معادية.

لاحقاً، اكتشفت الكثير من التفاصيل عن سيرة والدي المشرّفة، في حياته المدنية كما العسكرية، من إشارات أمي المقتضبة وذكريات أخوتي الأكبر، وخاصةً من أحاديث أخوته وأصدقائه وجيرانه الذين كانوا يجمعون في أحاديثهم عنه بأنه "رجل بأخلاق عالية، يعرف الله، محبًّ لكل معارفه وخاصةً عائلته وأولاده" .

بعد دخولي إلى الجامعة وانتقالي إلى دمشق، قررت أنه حان الوقت لملء هذه البقعة الفارغة من حياتي، اشتريتُ باقةً من الورد، واتجهت برفقة صديق إلى مقبرة الشيخ مسكين التي لا تبعد عن دمشق أكثر من 100 كيلو متر.

كان شعوراً غريباً ومدهشاً لا يمكن وصفه عندما وقعت عيناي ضمن مئات الشاهدات المتشابهة على الشاهدة التي تحمل اسم والدي ويوم استشهاده (استشهد في 9 تشرين الأول عام 1973) ، أحسستُ بأني أعدت وصل العلاقة "المقطوعة" مع والدي، تلك العلاقة التي بُنيت على ذكريات الآخرين رسّختُها وقوّيت دعائمها بعنصر مادي ملموس هذه المرة، فكان أن اختفى ذلك الشعور الكبير بالخواء العاطفي والأبوي، بعد أن أُعيد ترميمه من جديد، فقط برؤيتي لما يدلّ على أن جثمانه هنا؛ حتى لو تحت التراب !.

لاحقاً، تكررت زيارتي إلى"الشيخ مسكين"، خلال دراستي الجامعية واظبتُ على زيارة قبر أبي كل عام في السادس من أيار، أتحدث إليه، وأوطّد علاقتي به، وأبلغه بمستجدات حياتي وأخبار أخوتي وأمي ووطننا من بعده.

واليوم، مرت 47 عاماً على إحدى الحروب القليلة المشرّفة التي خاضها السوريون والعرب ضد عدو حقيقي، وهي تمر في سوريا باستحياء ودون انتباه أحد تقريباً، ما عدا بعض البرامج الممجوجة، والشعارات المكرورة عن "تشرين التحرير" و"البطولات المجيدة" والتمثيلية اليتيمة حول هذه الذكرى عن "ألف حبل مشنقة ولا يقولوا أبو عمر خاين يا خديجة" ..فيما على أرض الواقع، غرق هؤلاء الأبطال في النسيان، وفوق ذلك، تم تصنيفهم باعتبارهم "شهداء درجة ثالثة" !

نعم، فشهداء الوطن الذين سقطوا في معارك الشرف ضد المحتل الصهيوني تراجع ترتيبهم في تصنيفات السلطة وأولوياتها لصالح شهداء أحداث الثمانينات ضد الأخوان المسلمين، ثم حرب لبنان، والآن؛ مع شهداء الحرب السورية المتواصلة منذ تسع سنوات، حيث تراجع الاهتمام بهم إلى حدوده الدنيا! . لعلّ من المفيد التذكير هنا كيف تحتفي الأمم بشهدائها في الحروب المصيرية حتى بعد مئة عام وأكثر على استشهادهم، والأمثلة أكثر من أن نذكرها هنا.
كبر أبناء شهداء حرب تشرين، شقوا طريقهم، وهم يكملون حياتهم كغيرهم من أبناء هذا الشعب المبتلى بالنوائب، فيما لا يقوى معظم من بقي على قيد الحياة من آباء شهداء تشرين وأمهاتهم وزوجاتهم على مواجهة هذه الظروف القاسية .

تقول لي أمي إن راتبها التقاعدي الذي ورثته عن أبي لا يتجاوز بعد كل الزيادات "الهزيلة" 30 ألف ليرة، تذهب ثمناً لأدوية الضغط والأعصاب والمفاصل، وأن المعونات التي تُقدم للشهداء هذه الأيام تستثني عوائل شهداء حرب تشرين حصراً (زوجاتهم أو أمهاتهم)، بينما هم الأحوج لها (معظمهم طبعاً) نظراً لتقدمهم بالعمر وعدم قدرتهم على إعالة أنفسهم، وتضيف : كم عددهم، وماذا يشكلون اليوم من مجموع الشهداء الذين ترعاهم الدولة، وهل تعجز هذه الدولة – وإن كانت في أسوأ حالاتها – عن صون كرامتهم وإبعادهم عن الحاجة وذل السؤال، كم سيكلفها ذلك؟

وإذا كانت أمي لا تصنف نفسها ضمن المحتاجين للمعونات أياً كان مصدرها، إلا أنها تردّد على مسامعي باستمرار " لا يتعلق الأمر بحاجتي من عدمها يابني، بل بالمبدأ الذي لا يمكن تفسيره، والذي يصنف الشهداء إلى طبقات ودرجات" أو كما يقال "شهداء بسمنة وشهداء بزيت"!.

يلحّ على خاطري في هذه الأيام الرهيبة، أن أعرف ما سيكون عليه موقف والدي ومعه شهداء حرب تشرين فيما لو كانوا يتابعون ما جرى لعائلاتهم ووطنهم عقب استشهادهم في سبيل أنبل القضايا، وماذا سيقولون؟

بعد انقطاع لأكثر من عقدٍ عن زيارة قبره، بسبب الحرب، أرغب بزيارة أبي في "الشيخ مسكين"، وإن تعذر ذلك _ ربما بسبب اختفاء المقبرة خلال العمليات الحربية الأخيرة - أن أجري اتصالاً معه على طريقة دريد لحام في مسرحية "كاسك يا وطن"، وأعتقد أن نص الحوار بيننا سيكون شبيهاً بهذا النص المُتخيّل الذي كتبه الكبير محمد الماغوط "مع بعض التصرف" :
أنا : كيفك يا أبي.. وينك؟
أبي: بالجنة يا ابني الله يطعمك إياها.
أنا : والسامعين، يا أبي أنت ليش استشهدت.. شو كان بدك بهالصرعة ؟
أبي: منشان الوطن، شو نسيت؟
أنا : والله راح عن بالي الوطن يا أبي.. حلوة الجنة يا أبي؟
أبي: ما في متل الجنة، بس حتى الجنة ما بتغني عن الوطن يا ولدي، طمني شو صار فيكم.. وشو صار بالأشياء يلي استشهدنا من شانها؟
أنا: اطمن يا أبي الحمد لله دمكم ما راح هدر أبداً.
أبي: الله يطمنك بالخير، بس بدي منك أجوبة محددة.
أنا: تكرم جروحاتك يا أبي اسأل.
أبي: شو أخبار الوحدة العربية؟
أنا: أوووو ما عدنا حكينا فيها.
أبي: يعني صرتو بلد وحدة؟
أنا: لكان أنا اليوم فطرت ببغداد وتغديت بالخرطوم وعم أحكي معك من أبو ظبي.
أبي: قصدك ما ضلّ حدود؟
أنا: ع الخريطة بس.
أبي: والحرية؟
أنا: بتبوس أيدك.
أبي: يعني ما صفي سجون.
أنا: للمجرمين فقط يا أبي.
أبي: لك يا ولدي في شغلة بدي اسألك عنها ومستحي بعد هالسنين الطويلة.
أنا: لا يا أبي لا تستحي اسأل.
أبي: فلسطين، أكيد رجعتوها لأهلها؟
أنا: معك حق تستحي، هاد سؤال بينسأل بعد 47 سنة نضال؟!
أبي: برافوو عليكم..خلاصتو يعني مو ناقصكم شي؟
أنا: أبداً، مو ناقصنا شيء الله وكيلك يا أبي .. إلا شوية كرامة بس.
أبي: لكااان كل شي خبرتني عنه كذب؟
أنا: أيه كله خرط بخرط، احمد الله اللي طلعلك قبر بهالوطن نقرأ لك عليه الفاتحة بس.. يا أبي اليمن صارت يمنين والسودان سودانين وسورية أربعة .. والخير لقدام.
أبي: وليش هيك؟
أنا: قال لحتى تصير أصواتنا كتيرة بهيئة الأمم المتحدة.. وإسرائيل صارت قطر شقيق يا أبي.
أبي: وأمك وأخواتك شو صاير فيهن؟
أنا: ناطرين فرصة للهجرة
أبي: وولادك؟
أنا: بعتهم
أبي: الله لا يوفقكم في شي ما بعتوه بعد؟

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 2