لقد أوشكت أثيوبيا على الانتهاء من تشييد سد النهضة الاثيوبي الكبير على النيل الأزرق، الذي تشترك فيه كل من مصر واثيوبيا والسودان والذي يعتبر أكبر روافد نهر النيل.ويبلغ الحد الأقصى لسعة تخزين المياه بالسد 74 مليار متر مكعب كما تبلغ القدرة الاجمالية لتوليد الطاقة 6450 ميجاوات، ولذا من المتوقع أن يصبح سد النهضة الأثيوبي أكبر السدود الكهرومائية في أفريقيا.
ولكي نضع الأمور في نصابها، يستطيع سد النهضة انتاج ثلاثة أضعاف الطاقة التي يوفرها سد "هوفر"، كما يمكنه تخزين ضعف كمية المياه التي يتم تخزينها في بحيرة "ميد" أكبر الخزنات الصناعية في أميركا. وباختصار، فان سد النهضة من المشروعات ذات القدرات الضخمة.
ووفقا للقانون الدولي، لا يمكن تشييد أو ملء أو تشغيل سد بهذا الحجم دون التنسيق مع دول المصب، والتي سوف يؤثر عليها المشروع بشكل ملحوظ. وبالنسبة لمصر، لا يعتبر التوصل لاتفاق حول سد النهضة مسألة التزام قانوني فحسب، ولكنها قضية حياة أو موت حيث تعتبر مصر، التي يتجاوز تعداد سكانها 100 مليون نسمة، احدى أكثر الدول جفافا على مستوى العالم وتعتمد اعتمادا كليا على نهر النيل باعتباره شريان الحياة الوحيد.
الا أن موقف أثيوبيا على مدار عشر سنوات اتسم بالتعنت والصرامة واتخاذ القرارات أحادية الجانب. فقد بدأت بتشييد السد دوت اخبار أو مشاورة مصر والسودان، كما أحبطت كافة المحاولات لتوثيق أوتحليل الآثار التي سوف تلحق في دول المصب، وسعت لافشال جهود صياغة القواعد التي من شأنها أن تحكم ملء الخزان وتشغيل السد على المدى الطويل.
في بداية الأمر، استهدفت المفاوضات بين مصر وأثيوبيا والسودان تحديد التداعيات العايرة للحدود والآثار البيئية لسد النهضة، وضمان سلامة السد من الناحية الهيكلية. ومن ثم، قامت الدول الثلاث بتشكيل لجنة دولية من الخبراء لمراجعة خطط بناء السد ودراسة الآثار التي سوف تلحق بدول المصب ومجتمعاتها.
وقد كان التقرير الصادر عن اللجنة في الحادي والثلاثين من مايو عام 2013 مقلقا للغاية حيث انتقد الكثير من الجوانب الفنية لتصميم السد وأعرب عن العديد من المخاوف في شأن سلامته، كما وجد أن الدراسات الخاصة بالآثار الاقتصادية والبيئية والاجتماعية غير كافية. وبناء عليه، أوصت اللجنة بضرورة اجراء دراسات اضافية للوقوف على الآثار السلبية المحتملة للسد ومحاولة الحد منها.
وبعد مرورعدّة سنوات، لم يتم اجراء تلك الدراسات. وانتهاكا للمعاهدة الدولية التي يطلق عليها اسم "اتفاق اعلان المبادئ" والتي تم التوقيع عليها من قبل رؤساء كل مصر والسودان وأثيوبيا في الثالث والعشرين من مارس 2015، وانتهاكا للاتفاقيات التالية التي وقعت عليها الدول الثلاث في الخامس عشر من مايو 2018، عرقلت أثيوبيا، من خلال سياسة المراوغة، اجراء الدراسات الخاصة بالتداعيات العابرة للحدود لسد النهضة الأثيوبي الكبير.
بالاضافة الى ذلك، سعت أثيوبيا الى تقويض عمل اللجنة الوطنية الثلاثية، المكونة من عدد من الخبراء من الدول الثلاث والتي تم تشكيلها للاشراف على تلك الدراسات، كما عرقلت عمل مكتب الاستشارات الفرنسي الذي تم تكليفه باستكمال تلك الدراسات. وبناء على ذلك، وبعد عشر سنوات من المحادثات ومع اقتراب موعد ملء السد المقرر أن يبدأ خلال فصل الصيف، لا نمتلك أي تحليلات علمية أوأدلة تجريبية توثق الآثار المترتبة على سد النهضة. كما لاتمتلك أيضا أية ضمانات بشان سلامة السد من الناحية الهيكلية.
ومن المثير للقلق أيضا قيام أثيوبيا باحباط كافة المحاولات لتحديد أنماط ملء وتشغيل سد النهضة، والتي من شأنها أن تضمن عدم الحاق الضرر بدول المصب. وكانت الدول الثلاث قد اتفقت، في منتصف 2018، على تشكيل مجموعة مكونة من الخبراء المحليين لوضع قواعد الملء وتشغيل السد على المدى الطويل.
وقد عقدت تلك المجموعة خمسة اجتماعات ولم تنجح في تنفيذ مهمتها. وفي كافة تلك الاجتماعات، اتخذت أثيوبيا مواقف متشددة لا تتسق مع أفضل الممارسات المتعارف عليها دوليا في مجال تشغيل السدود. واعتمادا علو توجهاتها الأحادية، أصرت أثيوبيا على تطبيق الجدول الزمني للملء الذي يمكنها من ملء خزان السد بشكل سريع ومن ثم توليد الكهرباء، دون أدنى مراعاة للآثار التي سوف تلحق بدول المصب.
ومن جانبها، رفضت أثيوبيا تطبيق أي اجراءات للحد من آثار الجفاف الذي قد يتزامن مع ملء السد. كما رفضت أيضا تشكيل أية هياكل مؤسسية فاعلة تضمن التزامها بالاتفاقيات الخاصة بسد النهضة. وأبت أثيوبيا كذلك مناقشة قواعد التشغيل على المدى الطويل وأصرت على نحو عبثي على أن يتم الاتفاق حول قواعد التشغيل من قبل الدول الثلاث سنويا، وهو ما يعنى وضع مصر في مفاوضات دائمة حول سد النهضة.
وفي ضوء فشل الدول الثلاث في الاتفاق حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، دعت مصر الولايات المتحدة، لعلاقتها الاستراتيجية الراسخة مع كل من مصر واثيوبيا، والبنك الدولي، الذي يتمتع بخبرة لا نظير لها في هذا المجال، لتقديم المساعدة من أجل التوصل الى اتفاق. وقد أدى ذلك الى انطلاق عملية جديدة من المفاوضات المكثفة بحضور ممثلين عن وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي. وتضمنت تلك المناقشات، التي استمرت خلال الفترة من 6 نوفمبر 2019 حتى 28 فبراير 2020، ستة اجتماعات لوزراء الخارجية وشؤون المياه في الدول الثلاث، عقدت في وشنطن برئاسة وزير الخزانة الأميركي، ستيفن مانشين، بالاضافة الى أربعة اجتماعات لوزراء شؤون المياه عقدت في المنطقة، واجتماعين للخبراء القانونيين والفنيين.
وانطلاقا من التزامها السياسي تجاه التوصل الى اتفاق، أبدت مصر قدرا من المرونة غير المحدودة خلال المفاوضاتن وقامت مرارا وتكرار بمراجعة مقترحاتها الفنية لمواجهة المخاوف الأثيوبية. ومن ناحية أخرى، استمر التعنت من الجانب الأثيوبي. فقد رفضت اثيوبيا كافة الأفكار المقترحة من الجانب المصري، ولم تقبل بأي حلول وسطى مقدمة من قبل الأميركيين. ولم توافق أثيوبيا كذلك على الاتفاق المقترح من قبل الخبراء الأميركيين بشأن اجراءات تخفيف الآثار السلبية اثناء فترات الجفاف، والذي يضمن لأثيوبيا توليد 80 بالمئة من الطاقة الكهرومائية كحد أدنى، حتى في أسوأ الظروف الهيدرولوجية، مع توفير قدر بسيط من الحماية لمصر ضد الآثار المدمرة لنقص المياه.
بالاضافة الى ذلك، لم تبد أثيوبيا استعدادا لاضافة آلية ملزمة لتسوية النزاعات كما عارضت تشكيل آلية مراقبة شاملة للتحقق من الالتزام بالاتفاقية. وقد انتهى التعنت الأثيوبي بقرار عدم حضور الاجنماع الوزاري الأخير الذي عقد بدعوة من الولايات المتحدة في 27 و28 من شهر فبراير، والذي استهدف الانتهاء من الاتفاقية، بالاضافة الى رفضها التوقيع على الاتفاق النهائي الذي أعدته الولايات المتحدة بالتنسيق مع البنك الدولي. وعلى غرار النصوص الأخرى التي تستهدف التسوية والتي تسعى الى حل مرض للطرفين، يعد الاتفاق المقدم من الولايات النتحدة والبنك الدولي اتفاقا منقوصا من وجهة النظر المصرية. الا أن مصر قد أعلنت موافقتها على الاتفاق، موقعة عليه بالأحرف الأولى في 28 فبراير 2020.
وفي دليل آخر على الأحادية في اتخاذ القرارات، أعلنت الحكومة الأثيوبية مؤخرا أنها سوف تبدأ باحتجاز المياه لأغراض ملء سد النهضة دون موافقة دول المصب. ويمثل انتهاكا واضحا لاعلان المبادئ الذي تم التوقيع في عام 2015، والذي يلزم الدول الثلاث بالتوصل الى اتفاق حول ملء السد وتشغيله. كما يؤكد ذلك أن سد النهضة الاثيوبي الكبير ليس مجرد مشروع طاقة كهرومائية أو وسيلة للتنمية الاقتصادية، بل يتم استخدامه كأداة سياسية لمنح أثيوبيا القدرة على التحكم في مصير الشعبين المصري والسوداني. وبالفعل تمتلك أثيوبيا تاريخ طويل من التصرف كشريك غير مسؤول في المنطقة حوض النيل. فعلى سبيل المثال، تسبب بناء سد "جيب الثالث" بشكل أحادي على نهر أومو في الحاق الكثير من الضرر زالدمار ببحيرة توركانا في كينيا. ولن تتحمل مصر مثل تلك الآثار، كما لن تسمح بأن تصبح رهينة لارادة ورغبة احدى على نهر النيل دول المنبع التي تسعى الى السيطرة.
وفي حين يبدو الخلاف المتعلق بسد النهضة صعبا ومعقدا، يوجد حل في متناول الأيدي وتتمثل السخرية، أو ربما التميز، المرتبط بأسطورة العقدة الغوردية في التناسب بين صعوبة وتعقيد المشكلة من جانب وبساطة الحل من جانب آخر. ففي أعقاب دخول مدينة "غورديم"، عاصمة منطقة فريجيا القديمة، نظر الاسكندر الأكبر نظرة طويلة وثاقبة الى العقدة الغوردية، وفي ضربة واحدة، رفع سيفع وقطعها الى نصفين. ويعد حل الخلاف المتعلق بسد النهضة بهذه البساطة. ان الاتفاق العادل المتوازن الذي يصب في مصلحة الطرفين، والمعد من قبل الوسطاء المحايدين، مطروحا على الطاولة وجاهزا للتوقيع. وهذا الاتفاق ويعد بعهد جديد من التعاون والتكامل في منطقة حوض النيل. وقد أبدت مصر استعدادها لاستغلال تلك الفرصة التاريخية. والكرة الآن في ملعب اثيوبيا.
العقدة الغوردية في قضية نهر النيل
بقلم الدكتور محمد سامح عمر
أستاذ ورئيس قسم القانون الدولي، جامعة القاهرة
أستاذ زائر بمعهد الدراسات السياسية بباريس
محامي ومحكم