شهدت سوريا نهاية عام 2024 حدثاً تاريخياً قلب المشهد السياسي في البلاد، مع سقوط نظام الأسد، ما أدى إلى إعادة رسم خريطة النفوذ والسيطرة بعد استقرار نسبي دام منذ بداية عام 2020. هذا التغيير جاء نتيجة عملية تحرير واسعة أعادت توزيع القوى المحلية، مع ظهور ديناميكيات جديدة في مناطق عدة من البلاد.
مع خروج النظام السابق من المعادلة، أعلنت الحكومة السورية الجديدة، المشكلة من فصائل معركة ردع العدوان، مرحلة انتقالية، شملت إعادة تحديد حدود السيطرة بين مختلف الفاعلين. كما شهد الجنوب السوري ظهور قوة محلية جديدة تابعة للشيخ حكمت الهجري في السويداء، بينما واصل الجيش الإسرائيلي عمليات توغّل محدودة خارج المنطقة العازلة المتفق عليها منذ اتفاقية فك الاشتباك عام 1974.
بحلول نهاية عام 2025، تتوزع السيطرة على سوريا بين أربعة أطراف رئيسية، هي الحكومة السورية، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وقوات الحرس الوطني في السويداء، والجيش الإسرائيلي، مع اختلاف واضح في حجم النفوذ ومدى التأثير.
الحكومة السورية: السيطرة الأكبر والاستقرار النسبي
تظل الحكومة السورية الجهة الأكثر قوة على المستوى السياسي والجغرافي، حيث تسيطر على نحو 69.3% من مساحة البلاد، تشمل المدن الكبرى ومعظم البنى التحتية الحيوية والطرق الرئيسية. ومع ذلك، لا تمتلك السيطرة الكاملة على أربع محافظات رئيسية هي القنيطرة والسويداء والحسكة والرقة.
يمثل هذا الامتداد الجغرافي الكبير عمقاً استراتيجياً للحكومة، مدعوماً بثقل اجتماعي واسع في مناطق سيطرتها، وقدرة مؤسساتها الأمنية والعسكرية على إدارة هذه المساحة بشكل أكثر انتظاماً مقارنة ببقية الفاعلين. هذا يجعل خريطة الحكومة السورية الأكثر ثباتاً وقابلة للتوسع إذا ما تغيرت الظروف المحيطة بالأطراف الأخرى.
قسد: مناطق واسعة واستقرار هش
تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على نحو 27.8% من مساحة البلاد، تتمركز شمال وشرق سوريا على امتداد جغرافي كبير، إلا أن هذه المناطق تعاني من تحديات داخلية كبيرة. أبرزها الضغوط المرتبطة باتفاق 10 مارس 2025، الذي يهدف إلى إعادة ضبط العلاقة مع الحكومة، رغم استمرار المماطلة في تنفيذه، مستفيدة من دعم خارجي يتيح لها هامش مناورة.
رغم ذلك، تبقى حدود سيطرتها الأكثر قابلية للتغيير، سواء نتيجة تحركات عسكرية أو تبدل مواقف إقليمية ودولية، أو بسبب التوترات المجتمعية المحلية، ما يجعل نفوذها هشاً مقارنة بالحكومة.
قوات الحرس الوطني في السويداء: نفوذ صغير وتأثير كبير
تسيطر قوات الحرس الوطني التابعة للشيخ حكمت الهجري على 2.8% فقط من مساحة البلاد، لكنها تلعب دوراً استراتيجياً أكبر من حجم الأراضي التي تتحكم بها. يعتمد تأثيرها على الدعم المباشر من إسرائيل، ما يجعل وجودها أداة ضغط سياسي في الجنوب، ويمنع تشكيل استقرار كامل في المنطقة.
يتقاطع وجود الحرس الوطني مع توغّل الجيش الإسرائيلي بنسبة 0.1%، على نقاط مرتفعة ومواقع مراقبة حيوية، لتشكيل خط إنذار مبكر وضبط الحركة، ما يعكس تركيزاً على الأمن والاستقرار الجزئي، أكثر من السيطرة الجغرافية المباشرة.
المشهد المستقبلي: تغييرات محتملة بدافع سياسي
مع نهاية عام 2024 واستمرار بعض التحركات العسكرية والأمنية خلال 2025، تشهد سوريا تحولاً جذرياً في خريطة السيطرة، لكن من المتوقع أن تبقى التغييرات المستقبلية أكثر اعتماداً على دفع سياسي وأمني، وليس الأعمال العسكرية الواسعة. الاتجاه الإقليمي والدولي يركز على منع الفوضى والتقسيم الذي قد يهدد استقرار المنطقة، ما يجعل أي تعديل مستقبلي خاضعاً لموازين القوى والدبلوماسية أكثر من المعارك على الأرض.
في هذا السياق، يمكن اعتبار خريطة النفوذ السورية الجديدة انعكاساً للتوازنات المعقدة بين الفاعلين المحليين والإقليميين، مع ديناميكيات مرشحة للتغير وفق التطورات السياسية والأمنية القادمة.
مركز جسور للدراسات
.jpg)