الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف العمل

2025.12.18 - 10:07
Facebook Share
طباعة

 على عكس نبوءات “نهاية الوظائف” التي راجت مع صعود الذكاء الاصطناعي، يكشف تقرير حديث لصحيفة الإيكونوميست أن هذه التكنولوجيا لا تؤدي إلى القضاء على العمل البشري، بل تسهم في خلق فئات وظيفية جديدة بالكامل. وتتمحور هذه الوظائف حول المهارات الإنسانية التي يصعب أتمتتها، مثل الفهم العميق للسلوك البشري، والتواصل، والحُكم الأخلاقي، وإدارة المخاطر.

ويستهل التقرير بمثال ساخر لكنه بالغ الدلالة، يتمثل في إعلان وظيفي متداول يدعو إلى تعيين “مهندس زر الإيقاف” لدى شركة “أوبن إيه آي”، تكون مهمته الوقوف قرب الخوادم وفصلها “إذا انقلب النظام علينا”، في تعبير مكثف عن القلق الشعبي من الذكاء الاصطناعي وتداعياته المحتملة.

غير أن الإيكونوميست تؤكد بوضوح أن الواقع العملي يسير في اتجاه مغاير تمامًا، إذ يتزايد الطلب على البشر بدل أن يتراجع، مع انتقال الذكاء الاصطناعي من كونه أداة تقنية إلى جزء مدمج في بنية العمل اليومية.

من تدريب النماذج إلى نشرها

توضح الصحيفة أن وظائف تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي لم تعد تقتصر على وسم البيانات البسيط أو الأعمال الجزئية منخفضة الأجر، بل تطورت لتستقطب خبراء متخصصين في مجالات دقيقة مثل المال والقانون والطب. ويشارك هؤلاء في تزويد النماذج ببيانات عالية الجودة ومعرفة سياقية معقّدة لا يمكن تعويضها آليًا.

وفي هذا السياق، تورد الإيكونوميست مثال شركة “ميركور”، وهي شركة ناشئة أنشأت منصة لتوظيف مختصين وعلماء يساعدون الشركات على بناء “وكلاء أذكياء”. وقد بلغت القيمة السوقية للشركة نحو 10 مليارات دولار، فيما يصل متوسط الأجر الذي يتقاضاه العاملون عبر منصتها إلى نحو 90 دولارًا في الساعة، بحسب ما نقله التقرير عن مديرها التنفيذي.

وبعد مرحلة التدريب، تبرز فئة وظيفية جديدة تُعرف باسم “مهندسي النشر الميداني”، وهم فرق تعمل داخل المؤسسات لدمج أنظمة الذكاء الاصطناعي في العمليات اليومية. وتشير الصحيفة إلى أن شركة “بالانتير” كانت من أوائل من رسّخوا هذا النموذج، حيث يؤدي هؤلاء دورًا هجينًا يجمع بين المطوّر والمستشار والمسؤول التجاري، وينتقلون ميدانيًا إلى مواقع العملاء لتكييف الأنظمة الذكية مع احتياجاتهم الفعلية.

وتنقل الإيكونوميست عن غاري تان، رئيس شركة “واي كومبيناتور”، أن الشركات الناشئة التابعة للحاضنة أعلنت مؤخرًا عن 63 وظيفة من هذا النوع، مقارنة بأربع وظائف فقط في العام السابق، ما يعكس تسارع الطلب على هذه المهارات مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسات.

مركز القيمة الجديد في سوق العمل

ومع انتشار الوكلاء الأذكياء، تبرز—وفق الصحيفة—حاجة متزايدة إلى فهم أعمق للسلوك البشري والبيئات الاجتماعية التي يتفاعل فيها الذكاء الاصطناعي مع الناس. وتستشهد الإيكونوميست بتجربة شركة “وايمو” المتخصصة في سيارات الأجرة ذاتية القيادة، حيث تقود المركبات نفسها من البداية إلى النهاية، لكن عند وقوع خلل تقني وحبس الركاب داخل السيارة، يظهر دور بشري جديد يتمثل في “المشغّل البشري عن بُعد”، القادر على فهم التكنولوجيا وطمأنة الركاب والتعامل مع الموقف بمرونة إنسانية.

ويقول هيمانشو بالسولي، الرئيس التنفيذي لشركة “كورناستون أون ديماند” المتخصصة في تطوير المهارات، إن مهندسي البرمجيات كانوا يُقيَّمون سابقًا بناء على قدرتهم على كتابة الشيفرة البرمجية، “أما اليوم فالشيفرة يمكن أن تكتبها الخوارزميات”. ويضيف أن “شخصيتك هي موضع قيمتك”، في إشارة إلى أن مهارات مثل التواصل، والتعاطف، والحكم السليم أصبحت ذات قيمة اقتصادية مباشرة.

وبالتوازي مع ذلك، تشير الإيكونوميست إلى أن أسرع الوظائف نموًا حاليًا ليست وظائف مبرمجي الذكاء الاصطناعي، بل المتخصصين في مخاطر وحوكمة الذكاء الاصطناعي، أي أولئك الذين يضعون القواعد والضوابط، ويضمنون ألا تتسبب الأنظمة الذكية في تسريب بيانات، أو تعطيل عمليات، أو إحداث فوضى تنظيمية.

وقد أظهرت دراسة أجراها “اتحاد قوى عمل الذكاء الاصطناعي” بقيادة شركة “سيسكو” أن هذه الفئة تتصدر نمو الوظائف التقنية في الاقتصادات المتقدمة.

الذكاء الاصطناعي في قمة الهرم الإداري

وتختتم الإيكونوميست تقريرها بالإشارة إلى صعود منصب “مدير الذكاء الاصطناعي” داخل الإدارات العليا للشركات، وهو دور يجمع بين الخبرة التقنية، والمعرفة العميقة بالصناعة، والقدرة على إعادة هندسة العمليات.

وتوضح الصحيفة أن الشركة الكبيرة تستخدم في المتوسط 11 نموذج ذكاء اصطناعي توليدي، وفق بيانات شركة “آي بي إم”، في وقت يتزايد فيه ضغط الموردين الذين يعرضون حلولًا ذكية لكل وظيفة تقريبًا داخل المؤسسات.

وفي خلاصة واضحة، تؤكد الإيكونوميست أن الذكاء الاصطناعي لا يلغي العمل، بل يعيد تعريفه بصورة جذرية، وأن المهارات البشرية—من التعاطف إلى الحكم والمسؤولية—أصبحت العملة الأعلى قيمة في سوق العمل الجديد، لا عبئًا فائضًا كما تروّج سرديات “نهاية الوظائف”.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 5 + 5