دخلت قضية شركة الإسمنت الفرنسية “لافارج” مرحلة مفصلية في مسارها القضائي، بعدما طالبت النيابة الفرنسية بفرض غرامات مالية غير مسبوقة وعقوبات سجن قاسية بحق عدد من مسؤولي الشركة التنفيذيين السابقين، إضافة إلى وسطاء متهمين، على خلفية اتهامات بتمويل جماعات مصنفة إرهابية في سوريا خلال السنوات الأولى من الحرب.
وخلال جلسات محكمة الجنايات في باريس، طالبت النيابة بفرض غرامة تصل إلى مليار و125 مليون يورو على شركة “لافارج” بصفتها شخصاً اعتبارياً، إلى جانب عقوبات بالسجن تتراوح بين 18 شهراً وثماني سنوات بحق ثمانية متهمين. وتُعد هذه القضية من أكثر الملفات حساسية في تاريخ القضاء الفرنسي، نظراً لتقاطعها مع الحرب السورية، ومسؤولية الشركات العابرة للحدود، وحدود النشاط الاقتصادي في مناطق النزاع.
وتعود الوقائع إلى عامي 2013 و2014، حين واصلت “لافارج” تشغيل مصنعها للإسمنت في منطقة الجلابية شمالي سوريا، في وقت كانت فيه معظم الشركات الأجنبية قد غادرت البلاد. وبحسب لائحة الاتهام، لجأت الشركة عبر فرعها السوري إلى دفع أموال لجماعات مسلحة، من بينها تنظيم “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة”، مقابل ضمان مرور المواد الخام، وحماية المصنع، واستمرار الإنتاج.
وطالبت النيابة بإنزال عقوبات مشددة بحق عدد من كبار مسؤولي الشركة السابقين، بينهم مديرون تنفيذيون تولوا إدارة العمليات داخل سوريا، مع فرض غرامات مالية كبيرة ومنع بعضهم من ممارسة أي نشاط تجاري أو صناعي لسنوات طويلة، في خطوة تعكس توجهاً قضائياً صارماً تجاه قضايا تمويل الإرهاب.
ومن بين أبرز الأسماء الواردة في الملف، رجل الأعمال السوري فراس طلاس، الذي تطالب النيابة بسجنه ثماني سنوات مع غرامة مالية، باعتباره متهماً بالقيام بدور الوسيط بين شركة “لافارج” والتنظيمات المسلحة الناشطة في محيط المصنع. كما طالبت بإصدار مذكرة توقيف بحقه نظراً لتغيبه عن جلسات المحاكمة. وتشمل القضية أيضاً وسيطاً سورياً آخر، متهمًا بالتنسيق مع موردي المواد الخام والتنظيمات المسلحة، وطُلبت بحقه عقوبة سجن وغرامة مالية.
وفي ما يخص الكيان القانوني للشركة، لم تقتصر مطالب النيابة على الغرامة المالية الضخمة، بل شملت أيضاً مصادرة جزئية لأصول تصل قيمتها إلى عشرات ملايين اليوروهات، إلى جانب غرامات جمركية منفصلة بسبب انتهاك العقوبات المالية الدولية المفروضة على سوريا، ما يعكس تشديداً واضحاً في تحميل الشركات مسؤولية قانونية مباشرة عن أنشطتها في مناطق النزاع.
وبدأت فصول هذه القضية قضائياً عام 2017، بعد شكاوى تتعلق بانتهاك الحظر المالي على سوريا، وأخرى تقدّم بها موظفون سابقون وجمعيات حقوقية، تحدثوا عن دفع أموال لجماعات مسلحة مقابل استمرار العمل. وفي عام 2018، وُجهت إلى “لافارج” تهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، قبل أن تُسقط لاحقاً، مع بقاء ملف تمويل الإرهاب قيد الملاحقة القضائية.
وفي مسار موازٍ، أطلقت المجموعة الجديدة التي تشكلت بعد استحواذ “هولسيم” السويسرية على “لافارج” عام 2015، تحقيقاً داخلياً خلص إلى وجود انتهاكات لقواعد السلوك التجاري، مؤكدة في الوقت ذاته أن تلك الممارسات تعود إلى فترة سبقت عملية الدمج.
كما أقرّت “لافارج” في عام 2022 أمام القضاء الأميركي بدفع أموال لتنظيمات مصنفة إرهابية، ووافقت على تسوية مالية ضخمة، وهو ما شكّل أحد عناصر الملف المعروض أمام القضاء الفرنسي، رغم اعتراض فريق الدفاع الذي اعتبر أن هذا الإقرار لا يُثبت مسؤولية الأفراد، وأنه جاء في سياق حماية المصالح الاقتصادية للمجموعة.
من هو فراس طلاس؟
فراس طلاس هو رئيس “تيار الوعد السوري” و”الحزب الوطني السوري”، حاصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة دمشق عام 1984، وهو الابن الأكبر لوزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس، وشقيق العميد المنشق مناف طلاس.
دخل طلاس عالم الأعمال ليصبح واحداً من أبرز رجال الأعمال في سوريا، وأسّس عدداً من الشركات التجارية والاستثمارية، من بينها شركة “بالميرا” للتطوير العقاري، ومجموعة “ماس” الاقتصادية التي عملت في تجارة حبوب البن، وإنتاج المعادن، والصناعات الغذائية. كما امتلك شركات واسعة النشاط في المجالين الغذائي والعقاري، إضافة إلى شراكته مع شركات أجنبية، من بينها شركة “لافارج” الفرنسية لإنتاج الإسمنت، وكان يُعرف باحتكاره لتجارة السكر في سوريا قبل عام 2011.
غادر فراس طلاس سوريا في آذار 2012 برفقة والده مصطفى طلاس متوجهاً إلى فرنسا، وتنقل لاحقاً بين فرنسا والإمارات ومصر. وفي حزيران من العام نفسه، أعلن تأييده لاستقالة بشار الأسد، مشيراً إلى تقديمه دعماً إغاثياً لأحد فصائل المعارضة في مدينة حمص.
وكان طلاس من بين مؤسسي “تيار الوعد السوري” في نيسان 2014، الذي أعلن أنه يهدف إلى العمل في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، قبل أن يؤسس في شباط 2021 “الحزب الوطني السوري”، متعهداً بأن يركز نشاطه على الشأن الاقتصادي ورفاه المواطن السوري.
ولا تزال القضية مفتوحة على احتمالات قانونية واسعة، إذ قد تترتب عليها غرامات إضافية في حال إدانة الشركة بانتهاك الحظر المالي، إلى جانب استمرار التحقيق في اتهامات أخرى تتعلق بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، ما يجعل من هذا الملف اختباراً قضائياً وسياسياً بالغ الحساسية.