التفاوض تحت الضغط الإسرائيلي.. هل يُعاد إنتاج اتفاق 17 أيار؟

2025.12.13 - 09:18
Facebook Share
طباعة

 يشهد لبنان في المرحلة الراهنة نقاشاً واسعاً حول المسار التفاوضي الذي فُتح أخيراً مع إسرائيل، ولا سيما مع مشاركة ممثلين مدنيين فيه، وهو ما يُعدّ تحوّلاً لافتاً في مقاربة ملف الصراع. ويرى مؤيدو هذا المسار أنه قد يوفّر مخرجاً أمنياً أو سياسياً، تحت عنوان انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية ووقف اعتداءاتها المتواصلة، فيما يذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، متحدثين عن احتمال التأسيس لهدنة طويلة الأمد، أو فتح الباب مستقبلاً أمام مسار تطبيع شامل.

ورغم أن هذا الطرح لم يُترجم حتى الآن بمبادرة رسمية أو معلنة، إلا أن جملة من المتغيرات الإقليمية والداخلية تُستخدم لتبرير هذا التوجّه، أبرزها نتائج الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والتحولات الأمنية التي رافقتها، وقيام سلطة سياسية جديدة في بيروت، إضافة إلى سقوط النظام السوري السابق كعامل إقليمي مؤثر. وتُقدَّم هذه العوامل، من قبل أنصار التفاوض، على أنها تشكّل بيئة مناسبة لإعادة إنتاج تجربة مشابهة لاتفاق 17 أيار 1983، الذي وُقّع عقب الاجتياح الإسرائيلي، وسُوّق حينها باعتباره حلاً مرحلياً ينهي الاحتلال ويمهّد لما سُمّي «السلام المؤجّل».

في المقابل، تنطلق المقاربة الإسرائيلية للمفاوضات من قناعة مختلفة، إذ تعتبر تل أبيب أن العقبة الحقيقية أمام أي مسار سياسي أو تفاوضي لا تكمن في تركيبة السلطة اللبنانية أو في توازنات القوى الحزبية، بل في وجود المقاومة وسلاحها، وفي امتداد حضورها داخل بيئتها الحاضنة وبيئات وطنية أخرى. وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي لحقت بالمقاومة خلال الحرب، ومن الضغوط السياسية والإعلامية والاقتصادية المتزايدة، لا تزال تُعدّ العنصر الأكثر تماسكاً في معادلة الردع، فيما يبقى ميزان الردع الذي فرضته قائماً، وإن كان خاضعاً لاختبارات متواصلة.

وفي هذا السياق، تعمل إسرائيل على الدفع بالمسار التفاوضي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مستخدمة أدوات متعددة، تبدأ بالتصعيد العسكري والأمني، ولا تنتهي عند الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية. وتُستخدم الضربات الإسرائيلية داخل لبنان كوسيلة ضغط على القرار الرسمي اللبناني، ثم على قرار المقاومة، بهدف تعديل التوازنات بما يسمح بتحقيق مكاسب سياسية وأمنية إضافية، خصوصاً أن الكلفة العسكرية الإسرائيلية لا تزال، من وجهة نظر تل أبيب، ضمن حدود يمكن التحكم بها.

وتعتبر إسرائيل أن مجرد الدخول في تفاوض مع لبنان يُشكّل بحد ذاته مكسباً استراتيجياً، بغض النظر عن نتائجه النهائية. ففتح نافذة تواصل مع بيروت، ولو عبر وسطاء، يُعدّ كسرًا للموقف اللبناني التاريخي الذي تكرّس بعد إسقاط اتفاق 17 أيار، ويُسجَّل كتحوّل نوعي في موقع لبنان داخل معادلة الصراع. كما تراهن تل أبيب على إمكانية إحداث تغيير سريع في الثقافة السياسية والشعبية اللبنانية، في ظل وجود قوى محلية متعاونة معها ومنسجمة مع التوجّه الأميركي، وهو ما ينسجم مع الاستراتيجية الأميركية الأوسع الرامية إلى إضعاف خصوم إسرائيل، وعزل إيران، ودفع الدول العربية والإسلامية نحو مسارات تطبيع مختلفة.


17 أيار 1983 أم هدنة 1949؟
لم تكن اتفاقية 17 أيار، وفق نصوصها وملاحقها، اتفاق جلاء كما جرى الترويج له، بل اتفاقاً يرقى إلى مستوى الاستسلام شبه الكامل. فقد نصّت على إلغاء حالة العداء مع إسرائيل، وإنهاء اتفاقية الهدنة، وإقامة ترتيبات أمنية تشمل منطقة عازلة تُفرض فيها قيود صارمة على وجود الجيش اللبناني والقوى المسلحة، إلى حدّ تقليص قدراتهما بشكل كبير. كما أنشأت الاتفاقية «لجنة اتصال مشتركة» تشارك فيها الولايات المتحدة، وتُكلَّف الإشراف على تنفيذ بنود الاتفاق كافة.

كذلك، تضمّنت الاتفاقية فتح الحدود بين لبنان والأراضي المحتلة أمام تنقّل الأفراد والبضائع، من دون أن تنصّ على انسحاب فوري لقوات الاحتلال، بل حدّدت مهلة تتراوح بين ثمانية واثني عشر أسبوعاً، وهو بند لم تلتزم به إسرائيل، إذ مارست سياسة مماطلة أدّت في نهاية المطاف إلى إسقاط الاتفاق، من دون تحقيق الانسحاب الكامل إلا عام 2000 بفعل المقاومة المسلحة.

وعلى مستوى الوفد التفاوضي آنذاك، ترأسه السفير المتقاعد أنطوان فتال، المعروف بكتاباته ومواقفه السياسية التي تنفي وجود عداء لبناني لإسرائيل، رغم استمرار الاحتلال في ذلك الوقت. واليوم، يتولى التفاوض أيضاً ممثل مدني هو سفير لبنان السابق لدى الولايات المتحدة، سيمون كرم، المعروف بمواقفه اليمينية والمعادية للمقاومة، في مفارقة تعيد إلى الأذهان تجربة عام 1983.

أما أهداف التفاوض الحالي، فتظهر بوضوح من خلال تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين، إضافة إلى أطراف لبنانية منسجمة معهم، إذ لا يجري الحديث عن انسحاب إسرائيلي، بل عن خطوات تدريجية على طريق التطبيع والسلام الكامل. وقد أعقب الجلسة الأولى في الناقورة تصريح لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن فرص «تعاون اقتصادي» مع لبنان، مع الفصل بين هذا المسار والمسار الأمني الذي يستمر عبر الاعتداءات اليومية. ويُنظر إلى الطرح المتعلق بـ«منطقة اقتصادية» في المناطق الحدودية على أنه غطاء لمطلب إسرائيلي قديم بإقامة منطقة أمنية عازلة، بدعم أميركي.

وعلى صعيد آلية التفاوض، تضمّ «الميكانيزم» الحالي فرنسا وقوات دولية، إلا أن هناك توجهاً لإخراج هذين الطرفين، سواء عبر إنهاء مهمة القوات الدولية نهاية العام المقبل، أو عبر تهميش الدور الفرنسي، تمهيداً للإبقاء على المندوب الأميركي فقط، إلى جانب ممثلي لبنان وإسرائيل، في صيغة تذكّر بلجنة الاتصال المشتركة في اتفاق 17 أيار.

في المقابل، يُطرح اتفاق الهدنة الموقّع عام 1949 كبديل مرجعي، ويدعو مؤيدوه في لبنان إلى اعتماده أساساً لأي تفاهم محتمل. ويؤكد هؤلاء، ومن بينهم وليد جنبلاط، أن الاتفاق لا يعني تطبيعاً أو سلاماً، بل يقتصر على الجوانب العسكرية والأمنية، ويهدف إلى وقف الاعتداءات وزوال الاحتلال، مع فرض قيود متبادلة على الطرفين، من دون إنشاء منطقة أمنية عازلة داخل الأراضي اللبنانية.

ومع ذلك، تشير المعطيات إلى أن المسار التفاوضي الحالي يبتعد تدريجياً عن نموذج اتفاق الهدنة، ويتجه بخطى متسارعة نحو صيغة أقرب إلى اتفاق 17 أيار. وتُظهر التجارب التاريخية أن إسرائيل لم تلتزم يوماً بالاتفاقيات التي وقّعتها مع لبنان، ما يعزّز الشكوك حول أي اتفاق محتمل، ويعيد التأكيد، لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، أن المقاومة تبقى الخيار الوحيد القادر على فرض معادلات الردع، مهما طال الزمن.التفاوض تحت الضغط الإسرائيلي.. هل يُعاد إنتاج اتفاق 17 أيار؟


يشهد لبنان في المرحلة الراهنة نقاشاً واسعاً حول المسار التفاوضي الذي فُتح أخيراً مع إسرائيل، ولا سيما مع مشاركة ممثلين مدنيين فيه، وهو ما يُعدّ تحوّلاً لافتاً في مقاربة ملف الصراع. ويرى مؤيدو هذا المسار أنه قد يوفّر مخرجاً أمنياً أو سياسياً، تحت عنوان انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية ووقف اعتداءاتها المتواصلة، فيما يذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، متحدثين عن احتمال التأسيس لهدنة طويلة الأمد، أو فتح الباب مستقبلاً أمام مسار تطبيع شامل.

ورغم أن هذا الطرح لم يُترجم حتى الآن بمبادرة رسمية أو معلنة، إلا أن جملة من المتغيرات الإقليمية والداخلية تُستخدم لتبرير هذا التوجّه، أبرزها نتائج الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والتحولات الأمنية التي رافقتها، وقيام سلطة سياسية جديدة في بيروت، إضافة إلى سقوط النظام السوري السابق كعامل إقليمي مؤثر. وتُقدَّم هذه العوامل، من قبل أنصار التفاوض، على أنها تشكّل بيئة مناسبة لإعادة إنتاج تجربة مشابهة لاتفاق 17 أيار 1983، الذي وُقّع عقب الاجتياح الإسرائيلي، وسُوّق حينها باعتباره حلاً مرحلياً ينهي الاحتلال ويمهّد لما سُمّي «السلام المؤجّل».

في المقابل، تنطلق المقاربة الإسرائيلية للمفاوضات من قناعة مختلفة، إذ تعتبر تل أبيب أن العقبة الحقيقية أمام أي مسار سياسي أو تفاوضي لا تكمن في تركيبة السلطة اللبنانية أو في توازنات القوى الحزبية، بل في وجود المقاومة وسلاحها، وفي امتداد حضورها داخل بيئتها الحاضنة وبيئات وطنية أخرى. وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي لحقت بالمقاومة خلال الحرب، ومن الضغوط السياسية والإعلامية والاقتصادية المتزايدة، لا تزال تُعدّ العنصر الأكثر تماسكاً في معادلة الردع، فيما يبقى ميزان الردع الذي فرضته قائماً، وإن كان خاضعاً لاختبارات متواصلة.

وفي هذا السياق، تعمل إسرائيل على الدفع بالمسار التفاوضي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مستخدمة أدوات متعددة، تبدأ بالتصعيد العسكري والأمني، ولا تنتهي عند الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية. وتُستخدم الضربات الإسرائيلية داخل لبنان كوسيلة ضغط على القرار الرسمي اللبناني، ثم على قرار المقاومة، بهدف تعديل التوازنات بما يسمح بتحقيق مكاسب سياسية وأمنية إضافية، خصوصاً أن الكلفة العسكرية الإسرائيلية لا تزال، من وجهة نظر تل أبيب، ضمن حدود يمكن التحكم بها.

وتعتبر إسرائيل أن مجرد الدخول في تفاوض مع لبنان يُشكّل بحد ذاته مكسباً استراتيجياً، بغض النظر عن نتائجه النهائية. ففتح نافذة تواصل مع بيروت، ولو عبر وسطاء، يُعدّ كسرًا للموقف اللبناني التاريخي الذي تكرّس بعد إسقاط اتفاق 17 أيار، ويُسجَّل كتحوّل نوعي في موقع لبنان داخل معادلة الصراع. كما تراهن تل أبيب على إمكانية إحداث تغيير سريع في الثقافة السياسية والشعبية اللبنانية، في ظل وجود قوى محلية متعاونة معها ومنسجمة مع التوجّه الأميركي، وهو ما ينسجم مع الاستراتيجية الأميركية الأوسع الرامية إلى إضعاف خصوم إسرائيل، وعزل إيران، ودفع الدول العربية والإسلامية نحو مسارات تطبيع مختلفة.

17 أيار 1983 أم هدنة 1949؟

لم تكن اتفاقية 17 أيار، وفق نصوصها وملاحقها، اتفاق جلاء كما جرى الترويج له، بل اتفاقاً يرقى إلى مستوى الاستسلام شبه الكامل. فقد نصّت على إلغاء حالة العداء مع إسرائيل، وإنهاء اتفاقية الهدنة، وإقامة ترتيبات أمنية تشمل منطقة عازلة تُفرض فيها قيود صارمة على وجود الجيش اللبناني والقوى المسلحة، إلى حدّ تقليص قدراتهما بشكل كبير. كما أنشأت الاتفاقية «لجنة اتصال مشتركة» تشارك فيها الولايات المتحدة، وتُكلَّف الإشراف على تنفيذ بنود الاتفاق كافة.

كذلك، تضمّنت الاتفاقية فتح الحدود بين لبنان والأراضي المحتلة أمام تنقّل الأفراد والبضائع، من دون أن تنصّ على انسحاب فوري لقوات الاحتلال، بل حدّدت مهلة تتراوح بين ثمانية واثني عشر أسبوعاً، وهو بند لم تلتزم به إسرائيل، إذ مارست سياسة مماطلة أدّت في نهاية المطاف إلى إسقاط الاتفاق، من دون تحقيق الانسحاب الكامل إلا عام 2000 بفعل المقاومة المسلحة.

وعلى مستوى الوفد التفاوضي آنذاك، ترأسه السفير المتقاعد أنطوان فتال، المعروف بكتاباته ومواقفه السياسية التي تنفي وجود عداء لبناني لإسرائيل، رغم استمرار الاحتلال في ذلك الوقت. واليوم، يتولى التفاوض أيضاً ممثل مدني هو سفير لبنان السابق لدى الولايات المتحدة، سيمون كرم، المعروف بمواقفه اليمينية والمعادية للمقاومة، في مفارقة تعيد إلى الأذهان تجربة عام 1983.

أما أهداف التفاوض الحالي، فتظهر بوضوح من خلال تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين، إضافة إلى أطراف لبنانية منسجمة معهم، إذ لا يجري الحديث عن انسحاب إسرائيلي، بل عن خطوات تدريجية على طريق التطبيع والسلام الكامل. وقد أعقب الجلسة الأولى في الناقورة تصريح لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن فرص «تعاون اقتصادي» مع لبنان، مع الفصل بين هذا المسار والمسار الأمني الذي يستمر عبر الاعتداءات اليومية. ويُنظر إلى الطرح المتعلق بـ«منطقة اقتصادية» في المناطق الحدودية على أنه غطاء لمطلب إسرائيلي قديم بإقامة منطقة أمنية عازلة، بدعم أميركي.

وعلى صعيد آلية التفاوض، تضمّ «الميكانيزم» الحالي فرنسا وقوات دولية، إلا أن هناك توجهاً لإخراج هذين الطرفين، سواء عبر إنهاء مهمة القوات الدولية نهاية العام المقبل، أو عبر تهميش الدور الفرنسي، تمهيداً للإبقاء على المندوب الأميركي فقط، إلى جانب ممثلي لبنان وإسرائيل، في صيغة تذكّر بلجنة الاتصال المشتركة في اتفاق 17 أيار.

في المقابل، يُطرح اتفاق الهدنة الموقّع عام 1949 كبديل مرجعي، ويدعو مؤيدوه في لبنان إلى اعتماده أساساً لأي تفاهم محتمل. ويؤكد هؤلاء، ومن بينهم وليد جنبلاط، أن الاتفاق لا يعني تطبيعاً أو سلاماً، بل يقتصر على الجوانب العسكرية والأمنية، ويهدف إلى وقف الاعتداءات وزوال الاحتلال، مع فرض قيود متبادلة على الطرفين، من دون إنشاء منطقة أمنية عازلة داخل الأراضي اللبنانية.

ومع ذلك، تشير المعطيات إلى أن المسار التفاوضي الحالي يبتعد تدريجياً عن نموذج اتفاق الهدنة، ويتجه بخطى متسارعة نحو صيغة أقرب إلى اتفاق 17 أيار. وتُظهر التجارب التاريخية أن إسرائيل لم تلتزم يوماً بالاتفاقيات التي وقّعتها مع لبنان، ما يعزّز الشكوك حول أي اتفاق محتمل، ويعيد التأكيد، لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، أن المقاومة تبقى الخيار الوحيد القادر على فرض معادلات الردع، مهما طال الزمن.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 8