نفت وزارة الخارجية السورية وجود اتفاق مع واشنطن لإقامة قاعدة عسكرية أميركية في جنوب سوريا، ويبدو هذا النفي صحيحاً من زاوية ضيقة، إذ تشير المؤشرات الميدانية والسياسية إلى وجود تنسيق أمني متزايد بين دمشق والولايات المتحدة، من دون إعلان رسمي عن قواعد جديدة.
إعادة انتشار لا توسّع
يُرجّح أن التحرك الأميركي يأتي في إطار إعادة انتشار داخل الأراضي السورية، وليس توسيعاً عسكرياً مباشراً، خصوصاً أن القوات الأميركية موجودة أساساً في قواعد شرق سوريا وقاعدة التنف.
ويبدو أن واشنطن تعيد تنظيم تموضعها بما يتناسب مع التطورات الأخيرة، مثل إعادة دمج قوات "قسد" ضمن هياكل الجيش السوري، والاتفاق الأمني المرتقب بين سوريا وإسرائيل.
وخلال زيارة المبعوث الأميركي توماس براك بعد توقيع سوريا اتفاق انضمامها للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، اعتبر أن دمشق أصبحت "شريكاً أساسياً" لواشنطن، وهي إشارة مبكرة إلى تغيّر شكل العلاقة. وكرر الرئيس السوري في واشنطن الرسالة ذاتها عندما وصف بلاده بأنها "حليف جيوسياسي" للولايات المتحدة.
مؤشرات ميدانية على إعادة التموضع
شهدت الأسابيع الأخيرة نشاطاً أميركياً لافتاً في البادية السورية، وزيارات متكررة لقائد "سنتكوم" براد كوبر إلى دمشق، إضافة إلى تحركات لوفود عسكرية في مطارات الضمير والسين. كما عززت واشنطن وجودها في التنف بإرسال طائرات ومدرعات جديدة.
وتشير هذه التحركات إلى أن مناطق ريف دمشق—من البادية إلى شرق لبنان وجنوب سوريا—تتحول إلى محور عمليات مشترك بين القوات الأميركية والتحالف الدولي، بما في ذلك عمليات إنزال تستهدف خلايا متشددة في الضمير والقلمون.
ويبدو أن الوجود الأميركي يتجه نحو نمط جديد يعتمد على غرفة عمليات واسعة لإدارة الأمن ومكافحة الإرهاب، في إطار إعادة هيكلة شاملة للوجود العسكري.
الأهداف الأميركية في سوريا
1. صياغة دور جديد يتجاوز محاربة داعش
تراجع خطر تنظيم الدولة لم يعد يبرر الوجود الأميركي بشكل كافٍ، لذلك تعمل واشنطن على إعادة تعريف مهمتها عبر مشروع إستراتيجي سياسي–أمني أوسع يضع بلاد الشام ضمن دائرة النفوذ الأميركي المباشر، ويربط الأمن بالاقتصاد والسياسة.
2. ضبط التفاعلات الإقليمية في بلاد الشام
ترمي واشنطن إلى:
كبح النفوذ الإيراني ومنع تمدده في المناطق الرخوة.
الحد من النفوذ الروسي وتقليص فرص دخول الصين إلى المنطقة.
مراقبة خطوط التماس لمنع مفاجآت مشابهة لطوفان الأقصى عام 2023.
تمهيد الأرضية لمشاريع "صنع السلام" التي يرغب ترامب في قيادتها.
3. إدارة توازنات القوى وإعادة تشكيل المشهد الإقليمي
تحاول واشنطن منع انفجار الصراعات بين القوى المتنافسة في سوريا—تركيا، إسرائيل، الأكراد، الدروز وغيرهم—والتحكم في قواعد الاشتباك. وتهدف إلى تحويل سوريا إلى ركيزة في تصورها الاقتصادي الإقليمي، بما يشمل مشاريع الغاز والتجارة والإعمار التي قد تستفيد منها الشركات الأميركية.
ويمثل موقع سوريا الجغرافي عاملاً محورياً في هذا التحول؛ إذ تنتقل من "أرض مهمّشة" إلى مركز عقدة جغرافية تربط المتوسط بالعراق وتركيا والأردن وإسرائيل، وتلعب دوراً مباشراً في المشاريع الجيوسياسية والاقتصادية الأميركية.
تقاطع المصالح الأميركية والإقليمية
يتقاطع الحراك الأميركي مع رغبة إقليمية في تثبيت استقرار سوريا ولجم الاندفاعة الإسرائيلية نحو تفتيتها. كما تراهن دمشق على أن الشراكة الأمنية مع واشنطن ستمنحها فرصة لإعادة بناء مؤسساتها الأمنية والعسكرية بدعم دولي.
ومع تراجع أدوار روسيا والصين، باتت واشنطن اللاعب الأكثر قدرة على إدارة الملف السوري وتوجيهه.
نمط وجود جديد
قد لا تكون هناك قواعد أميركية جديدة معلنة، لكن المرجّح دمج خبراء ومستشارين أميركيين داخل هياكل الجيش السوري تحت غطاء التدريب والمساعدة في دمج الفصائل مثل "قسد" وفصائل السويداء.
ويُتوقع أن تتجه واشنطن في المرحلة المقبلة إلى تعزيز إعادة هيكلة وجودها بما يجعلها الطرف الأكثر تأثيراً في رسم مستقبل سوريا وترتيبات الأمن الإقليمي.