بعد عقود من حكم نظام الأسد في سوريا، يظل مفهوم العلمانية محاطاً بالريبة والخوف بين جزء من السوريين، رغم أنه كان مقدَّماً كأداة لحماية الدولة من الانقسامات الدينية والصراعات الطائفية. المحللون يرون أن النظام استغل هذا الخطاب العلماني لأغراض سياسية، جعله غطاءً للقمع وتعزيز الهيمنة واستئثار السلطة، بدل أن يكون قاعدة لبناء مجتمع مدني حر.
خلال حكم الأسد، طُرحت العلمانية كشعار كبير يهدف إلى تحصين الدولة، لكن استخدامها السياسي أفرغها من مضمونها الأصلي، فأصبحت مرتبطة في الوعي الشعبي بالقمع والهيمنة بدل الحرية والمواطنة المتساوية. هذا التاريخ الطويل للقمع والإقصاء جعل العديد من السوريين ينظرون إلى أي خطاب علماني بحذر، ويخشون أن يكون تهديداً للهوية الدينية والثقافية.
مع سقوط نظام الأسد، تعيش سوريا مرحلة جديدة تتطلب إعادة بناء مؤسسات الدولة وترميم النسيج الاجتماعي، ويبرز الجدل مجدداً حول العلمانية، بين من يدعو إلى تبني رؤية علمانية تكفل حقوق الجميع، وبين من يرى أنها قد تتعارض مع الهوية الدينية.
الدكتور برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي، يوضح أن العلمانية لا تتعارض مع الدين، بل تؤسس لحرية المعتقد وتعايش الأديان. بحسبه، العلمانية تعني أن لكل من القيادة الدينية والسياسية سلطته الخاصة، مستقلة عن الأخرى، مع احترام حدود كل سلطة. وظيفة رجل الدين هي هداية الرعية، ووظيفة الدولة تنظيم شؤون الشعب دون تمييز، ما يسمح بتجاوز الصراعات الطائفية.
ويرى غليون أن انطباع السوريين السلبي تجاه العلمانية نشأ بسبب سوء فهم تاريخها ومضمونها، إذ فُسرت أحياناً على أنها عداء للدين، بينما هي في جوهرها صيغة سياسية لضمان التعايش بين السلطة الدينية والسياسية، دون أن تتنازل أي منهما عن دورها.
أما العلاقة بين السلطة السياسية والحركات الدينية المتطرفة، فتوضح أن سياسات القمع والإرهاب ضد هذه الحركات ساهمت في تحول بعض الحركات الدينية المعارضة إلى أعمال عنف وانتفاضات مسلحة، كرد فعل على العنف والإقصاء الذي مارسه النظام. النظام استخدم شعار العلمانية كغطاء للقمع السياسي، بينما دفع الحركات الأخرى نحو التطرف، ما أضعف القوى السياسية العلمانية والقومية السابقة، وحوّل بعض حلفائها إلى أدوات دعم للنظام أو متواطئين معه، مما أضعف تأثيرها وصدقيتها في الشارع.
لترسيخ العلمانية في سوريا بعد سقوط الأسد، يرى غليون أن الخطوة الأولى هي التحرر من إرث الأنظمة الفاشية التي استغلت الدين لتبرير القمع، ومن ثم العمل على ترسيخ الحقوق الأساسية، بما في ذلك حرية الاعتقاد الديني والسياسي والفكري، وتجريم الإرهاب بكافة أشكاله، وضمان المواطنة المتساوية لجميع المواطنين، وكسر العداء المصطنع بين العلمانيين والإسلاميين.
ويضيف أن الحوار والاعتراف المتبادل بالأهلية السياسية، والمشاركة الديمقراطية عبر الانتخابات، هي الوسيلة الوحيدة لحل الخلافات السياسية، وتحقيق توازن حقيقي بين الحرية الدينية والسلطة المدنية، بعيداً عن إرث الخوف والقمع الذي رافق العقود الماضية.