شهد الساحل السوري خلال سنوات طويلة تراجعًا واسعًا في البنى التحتية وتراجعًا اقتصاديًا امتد أثره إلى المجتمع المحلي الذي تأثر بالانقسامات والصراعات. ومع سقوط النظام السابق، أعلنت الحكومة الانتقالية قرارات تقضي بحلّ الجيش وتسريح أعداد كبيرة من الموظفين الحكوميين أو تحويلهم إلى إجازات طويلة الأمد. هذا التغيير دفع شريحة واسعة من أبناء الساحل إلى البحث عن مصادر دخل بديلة بعد فقدان الرواتب التي شكّلت لعقود الركيزة الأساسية للمعيشة.
تحولات اقتصادية وبحث عن مصادر رزق جديدة
يعتمد الساحل السوري على مزيج من الأنشطة الاقتصادية، أبرزها الزراعة والصيد البحري والحرف اليدوية والسياحة، إلى جانب وجود موانئ ومصافي نفط تشكّل جزءًا مهمًا من اقتصاد المنطقة. إلا أن هذه القطاعات تراجعت خلال السنوات الماضية نتيجة الإهمال والظروف الأمنية وغياب الدعم والتهجير القسري والخدمة الإلزامية، إضافة إلى سياسات الحكومات المتعاقبة سابقًا التي دفعت أبناء المنطقة نحو وظائف الدولة على حساب المهن التاريخية.
وفي القطاع الزراعي، واجه المزارعون هذا العام تحديات كبيرة بسبب الجفاف وقلّة الأمطار، إلى جانب غلاء الأسمدة والبذار وانخفاض الدعم الحكومي. كما تسببت موجات الصقيع في تلف مساحات واسعة من المحاصيل، وهو ما انعكس على ارتفاع أسعار الخضار والفواكه في عموم البلاد.
عودة لمهن اندثرت
شهد الساحل خلال الأشهر الأخيرة عودة نشاط مهن شبه مندثرة، وعلى رأسها تربية المواشي، التي بدأت تجذب سكانًا فقدوا أعمالهم التقليدية. وتبرز أهمية دعم هذا القطاع عبر توفير الأعلاف والأسمدة بأسعار مناسبة وتعزيز دور التعاونيات الزراعية لرفع كفاءة الإنتاج وتخفيف الأعباء عن الحكومة.
كما يبرز تحدي الجفاف والحاجة إلى تحسين خدمات الكهرباء في المناطق الزراعية، خصوصًا بعد تكبد القطاع أضرارًا كبيرة نتيجة الصقيع. ويطالب المزارعون بربطهم بأسواق جديدة تتيح لهم بيع منتجاتهم بأسعار عادلة.
انتشار التحطيب وصناعة الفحم
ومن المهن التي توسع انتشارها مؤخرًا جمع الحطب وصناعة الفحم، مدفوعة بالفقر وغياب فرص العمل. ورغم خطورتها على الغابات التي بدأت تفقد ملامحها بسبب القطع العشوائي، إلا أن السكان لجأوا إليها في ظل ضعف الرقابة وتقليص أعداد عناصر الحراج والإطفاء. ويتزامن ذلك مع انتشار “البسطات”، التي تحولت إلى مصدر رزق أساسي للعديد من العاطلين عن العمل.
نشاط في الموانئ والمصافي
شهدت الموانئ ومصافي النفط على الساحل عودة تدريجية للنشاط، مع وصول بواخر تحمل مواد غذائية وسيارات وفحمًا ونفطًا. ويرى مراقبون أن هذه التطورات قد تخلق فرص عمل جديدة، لكنهم يشددون على ضرورة ضبط عمليات الاستيراد لمنع إغراق السوق ببضائع ضعيفة الجودة قد تُضعف الإنتاج المحلي وتحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد استهلاكي.
السياحة بين الأمل والواقع
أطلقت الحكومة الانتقالية مشاريع لتطوير القطاع السياحي شملت ترميم المواقع الأثرية واستحداث شرطة سياحية وتوقيع اتفاقيات استثمارية جديدة. غير أن استمرار الهواجس الأمنية يحدّ من قدرة الساحل على استعادة مكانته السياحية، خاصة في ظل عدم وجود استقرار يشجع الزوار على القدوم.
الوضع الخدمي ودور المنظمات المدنية
تعاني المنطقة من مشكلات خدمية تشمل ضعف البنى التحتية في الكهرباء والمياه والصحة والاتصالات، لكن المؤسسات الحكومية تعمل على تحسين هذه الخدمات عبر مشاريع صيانة وتوسعة. فقد أطلقت مؤسسة الكهرباء حملات صيانة استعدادًا للصيف، كما عززت مؤسسة النقل الداخلي أسطولها بحافلات جديدة، وبدأت مشاريع لإعادة تأهيل محطات المياه.
وتنشط منظمات مدنية حديثة النشأة تقدّم دعمًا إغاثيًا للمتضررين من أحداث آذار، مثل “الحركة المدنية الديمقراطية” و”حركة الشغل الديمقراطي” و”التيار السوري المدني الحر”، إضافة إلى منظمات أخرى قدمت مساعدات للطلاب والأسر المتضررة.
تحديات القطاع التربوي
يبرز قطاع التعليم كأحد أكثر القطاعات معاناة، خصوصًا في طرطوس، حيث تم نقل عدد كبير من المعلمين الاختصاصيين من محافظات أخرى إلى الساحل بناءً على قرارات وزارية واحتياجات رسمية. إلا أن مديرية التربية في طرطوس أعادت مؤخرًا معلمين كبارًا في السن إلى الصفوف بعد أن كانوا يعملون إداريًا، ما أثار انتقادات حول تأثير ذلك على جودة التعليم واستبعاد الكوادر الشابة المؤهلة. كما وُضع العديد من المتعاقدين الجدد “تحت التصرف”، وسط مطالبات بإيجاد حلول عادلة لهذه الشريحة.
الحياة اليومية والقلق من الشائعات
ورغم تزايد الشائعات حول مستقبل الساحل بعد أحداث آذار، بما في ذلك الحديث عن اللامركزية أو الفيدرالية، يعيش السكان حياة طبيعية نسبيًا يعكّرها فقط عدد من الانتهاكات والحوادث الأمنية. ويطالب الأهالي بضرورة حصر السلاح بيد الدولة وفرض سيادة القانون لضمان الأمن والاستقرار.
تشير التطورات في الساحل السوري إلى مرحلة انتقالية مركّبة تجمع بين التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. حلّ الجيش وتسريح الموظفين أحدث فراغًا كبيرًا في سوق العمل، ما دفع السكان نحو مهن بديلة بعضها يحمل طابعًا إنتاجيًا واعدًا، مثل الزراعة وتربية المواشي، وبعضها يحمل مخاطر طويلة الأمد مثل التحطيب وفقدان الغابات.
عودة الموانئ والمصافي إلى العمل تعد مؤشرًا على بدء دوران عجلة الاقتصاد، لكنها تحتاج إلى تنظيم دقيق لتجنب تحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد قائم على الاستهلاك فقط. أما القطاع السياحي، فرغم الجهود الحكومية، ما يزال بحاجة لحالة أمنية مستقرة تعيد ثقة المستثمرين والزوار.
على المستوى الاجتماعي، لا تزال آثار أحداث آذار حاضرة، مع نشاط ملحوظ لمنظمات مدنية تحاول ملء الفراغ، لكنها ما تزال في طور التشكل وغير قادرة وحدها على تقديم حلول مستدامة. وفي قطاع التعليم، تكشف القرارات الإدارية عن اختلال في توزيع الكوادر، ما يؤثر في جودة العملية التعليمية ويخلق حالة من عدم الرضا بين المعلمين.
بشكل عام، يمكن القول إن الساحل يقف أمام مرحلة إعادة تشكل اقتصادية واجتماعية واسعة، تحتاج إلى سياسات واضحة لضبط الأمن وحماية البيئة ودعم القطاعات الإنتاجية وتحسين الخدمات.