تتعامل إسرائيل مع لبنان اليوم انطلاقاً من مقاربة مختلفة، ترتكز على رؤية أوسع للدور الذي تسعى القوى الإقليمية إلى فرضه على الدول الهشّة المحيطة بها. وفي إطار هذه الرؤية، تنظر تل أبيب إلى الجيش والدولة اللبنانية كمساحة يمكن إعادة توجيهها سياسياً وأمنياً، بما يخدم مشروعها الهادف إلى تطويق المقاومة وتغيير البيئة الحاضنة لها. فالأولوية الإسرائيلية ليست الذهاب نحو مواجهة عسكرية مباشرة، بل محاولة تطويع مؤسسات الدولة ودفعها للقيام بمهام لم تنجح القوة العسكرية الإسرائيلية في تحقيقها خلال عقود من الصراع.
وقد كشف خطاب بنيامين نتنياهو الأخير أمام الأمم المتحدة جانباً رئيسياً من هذا التوجه. فبعد أن أبدى ترحيباً بقرار الحكومة اللبنانية بشأن «تفكيك سلاح حزب الله»، لم يخفِ استياءه من بقاء الأمر في إطار التصريحات، قائلاً: «نحن بحاجة إلى أكثر من الكلمات». وفي هذا القول إشارة واضحة إلى أن إسرائيل تنتظر خطوات عملية يجري تنفيذها، وفق تصورها، من خلال الجيش اللبناني نفسه.
ما عبّر عنه نتنياهو بأسلوب دبلوماسي، قاله تامير هايمن، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي، بوضوح أكبر، عندما دعا صراحة إلى «تشجيع الجيش اللبناني على الاحتكاك مع حزب الله». وهذه الدعوة تختصر المقاربة الإسرائيلية الراهنة: الدفع نحو صدام داخلي يبدّل البيئة اللبنانية ويدفع الجيش إلى مواجهة مباشرة مع المقاومة، بما يفتح باباً لتغيير سياسي واسع، ويضع ما تبقى من استقرار البلد على المحك.
الفكرة التي تشتغل عليها إسرائيل اليوم هي أن تعديل اتجاه القرار السيادي اللبناني هو الطريق الأقل كلفة لتحقيق أهدافها.
هذه القراءة تستند إلى تراكم التجربة الإسرائيلية مع المقاومة، منذ الانسحاب عام 2000، مروراً بحرب 2006، وصولاً إلى حرب 2024، حيث نجحت إسرائيل في توجيه ضربات موجعة وغير مسبوقة، لكنها لم تستطع القضاء على المقاومة أو تعطيل قدرتها على الدفاع. فرغم الأضرار الكبيرة التي لحقت بلبنان، لم تتمكن تل أبيب من دفع حزب الله خارج المعادلة الداخلية، ولا من كسر قدرته على منع اجتياح جنوب الليطاني.
من هنا نشأت القناعة الإسرائيلية بأن القوة العسكرية وحدها لا تكفي. فالتغيير يجب أن يصيب موقع الجيش اللبناني ودور الدولة في التعامل مع ملف المقاومة، أو على الأقل دفع هذا الاتجاه عبر ضغوط سياسية وأمنية.
وتقف الولايات المتحدة في قلب هذا المسار، باعتبارها «الداعم الأساسي» للرؤية الإسرائيلية بعيدة المدى. وقد أوضح هايمن ذلك عندما قال إن الهجمات الحالية لا تعدو كونها وسيلة موقتة، في ظل غياب «سياسة أميركية – إسرائيلية طويلة الأمد». وأكد ضرورة الدمج بين الضغط السياسي والعمل العسكري لفرض «واقع أمني مستقرّ». وهذا يعني عملياً أن واشنطن هي الجهة التي يُنتظر منها ممارسة الضغوط المالية والسياسية على لبنان ومؤسساته، وفي مقدمتها الجيش.
وعلى هذه الأرضية يمكن فهم المسارات التي يجري دفع لبنان إليها اليوم. فمن ناحية، هناك محاولة واضحة لجرّ البلاد إلى مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وهو ما ألمح إليه نتنياهو عندما قال إن «السلام سيأتي سريعاً» إذا اتخذ لبنان خطوات «لتحييد حزب الله». ومن ناحية أخرى، يتعرض الجيش لضغوط لاتخاذ إجراءات جنوباً ـــ مداهمات أو تحركات ذات طابع أمني ـــ يمكن أن تُستغل لإحداث احتكاك مع البيئة الشعبية للمقاومة. وكل من يعرف طبيعة الجنوب يدرك أن مثل هذه الخطوات ستُقرأ حتماً كتمهيد لمواجهة أكبر.
غير أن العامل الأكثر إرباكاً لإسرائيل هو احتمال حفاظ لبنان على وحدته السياسية وعلى عناصر قوته، وبقاء القرار السيادي خارج التأثير الخارجي المباشر. فإسرائيل تدرك جيداً أن أي تماسك داخلي ـــ سياسي أو عسكري أو شعبي ـــ يعرقل محاولاتها لتغيير وظيفة الجيش وتحويل الدولة إلى منصة ضغط على المقاومة. وهذا السيناريو هو الأكثر إزعاجاً لها، لأنه يبقي المعادلة الدفاعية اللبنانية قائمة ويمنع جرّ الجيش إلى صدام داخلي أو توظيفه لفرض تسويات تناسبها.
الخلاصة التي يمكن استخلاصها من المسار الإسرائيلي هي أن الهدف الحقيقي لا يقتصر على الضغط على المقاومة، بل يشمل جرّ الجيش إلى خطوات تضعه في موقع مواجهة معها، ما يؤدي إلى اهتزاز الوضع الداخلي وتغيير وظيفة الدولة. أما الخطر الأكبر على المخطط الإسرائيلي فيكمن في أن يفشل، وأن تتكرّس في لبنان مقاربة وطنية تحمي القرار السيادي وتحافظ على عناصر القوة التي حالت دون تحقيق المشاريع الإسرائيلية طوال السنوات الماضية.