مقدمة: بين عزلة بن غوريون وانهيار السابع من أكتوبر
في صيف عام 1952، اتخذ دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، قرارًا بالانعزال في مستوطنة "سديه بوكير" في عمق صحراء النقب، مبتعدًا عن ضجيج السياسة والحكم لمدة تقارب شهرين. من تلك العزلة خرج بما عُرف لاحقًا بـ"سيمينار بن غوريون"، وهو الوثيقة الفكرية التي أرست الأسس الأولى للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، محددةً مبادئها ومرتكزاتها التي حكمت سياسات الأمن والحرب لعقود.
كانت هذه العقيدة مبنية على قناعة بإمكانية الجمع بين الردع القاسي، والإنذار المبكر، ونقل الحرب إلى أرض الخصم، وبناء شبكة تحالفات دولية داعمة. وقد شكّلت معًا الإطار العام الذي حدّد حدود القوة الإسرائيلية وآليات تشغيلها في إقليم عربي معادٍ.
لكن جذور هذا التفكير تعود إلى وقت أبكر، مع المنظّر الصهيوني فلاديمير جابوتينسكي الذي صاغ عام 1923 نظرية "الجدار الحديدي"، مؤكدًا أن العرب لن يقبلوا وجود كيان يهودي ما دام لديهم بصيص أمل لمقاومته. ومن ثمّ، فالحل –بحسبه– هو بناء جدار من القوّة يسحق إرادة المقاومة ويدفع العرب إلى القبول بالوجود الاستعماري اليهودي. هذه الرؤية، التي كانت خطابًا أيديولوجيًا في بداياتها، سرعان ما تحوّلت إلى حجر زاوية في العقلية الأمنية الإسرائيلية.
غير أن يوم 7 أكتوبر 2023 كان نقطة الانهيار الأكبر لهذه المنظومة. فالهجوم الذي نفذته حركة حماس كشف عن ثغرات عميقة في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وأسقط فرضياتها التاريخية، وأظهر محدودية "الجدار الحديدي" أمام خصم تغيّرت طبيعة تفكيره واستراتيجيته.
ومع أن هذا اليوم شكّل ضربة قاصمة للنظرية التقليدية، فقد فتح في الوقت ذاته الباب نحو مراجعة شاملة وإعادة صياغة جديدة للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، في محاولة لإعادة بناء الردع واستعادة الهيبة المفقودة.
أولًا: ماهية الأمن القومي ومرتكزات العقيدة الأمنية الإسرائيلية
تعريف الأمن القومي
يقصد بالأمن القومي قدرة الدولة على حماية مصالحها الاستراتيجية العليا عبر تعبئة عناصر القوة الشاملة: العسكرية، الاقتصادية، الاجتماعية، الاستخبارية، والتكنولوجية، مع الحفاظ على سيادتها وتنمية مواردها وتحقيق استقرارها الداخلي والخارجي.
مرتكزات العقيدة الأمنية كما صاغها بن غوريون
بُنيت رؤية بن غوريون على إدراك واقعي لطبيعة إسرائيل: دولة صغيرة المساحة، قليلة السكان، بلا عمق جغرافي، ومحاطة بخصوم ذوي كثافة سكانية وجغرافية واسعة. بناءً على ذلك، صاغ ستة مرتكزات رئيسية:
1. الردع كركيزة أساسية
يرتكز على إظهار تفوّق نوعي في القوة بحيث يدرك الخصم أن تكلفة الهجوم باهظة. الردع بالنسبة لإسرائيل ليس مجرد تهديد، بل منظومة تشمل الجاهزية الدائمة والتعبئة السريعة والقدرة على توجيه ضربات قاسية.
2. نقل المعركة إلى أرض الخصم
وبسبب ضيق المساحة، تبنّت إسرائيل مبدأ نقل القتال فور اندلاعه إلى أرض العدو لحماية جبهتها الداخلية ومنع أي تواجد معادٍ داخل أراضيها.
3. تدمير القوة العسكرية للعدو
لا يكفي صد الهجوم؛ بل يجب تحطيم القدرات القتالية للخصم حتى لا يتمكن من استعادة قوته. وقد ظهر هذا في حروب إسرائيل مع مصر وسوريا.
4. احتلال مناطق ذات أهمية إستراتيجية
لم يكن الاحتلال توسعًا بقدر ما كان "احتلالًا وقائيًا" لتحقيق الأمن، كما حدث في سيناء والضفة الغربية.
5. الهجوم الاستباقي عند توافر معلومات استخبارية دقيقة
يُعدّ الضرب أولًا مبدأً دفاعيًا في العقل الإسرائيلي، هدفه منع الخطر قبل تبلوره، كما ظهر في عمليات عديدة تمت ضد دول وجهات مختلفة.
6. السلاح النووي كملاذ أخير
ساهم بن غوريون في وضع الأساس لفكرة الردع النووي تحت سياسة "الغموض النووي"، لضمان بقاء الدولة إذا واجهت تهديدًا وجوديًا.
ثانيًا: لماذا أصبح مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي بحاجة للتحديث؟
شهدت البيئة الإقليمية والدولية منذ الألفية الجديدة تحولات متسارعة، من ثورات الربيع العربي إلى صعود قوى غير دولتيّة مسلّحة، وصولًا إلى التحولات التكنولوجية. وفي المقابل، شهد الجيش الإسرائيلي تحولًا بنيويًا:
تحوّل الجيش نحو “الهاي-تك” وإهمال القوات البرية
برزت هيمنة الذراع الجوية والاستخباراتية والسيبرانية، في مقابل تراجع مكانة القوات البرية التي كانت تاريخيًا أساس الحسم. هذا الخلل أدى إلى فجوة بين التفوق التقني والجاهزية الميدانية.
يرى قادة عسكريون مثل غادي آيزنكوت وغاي حزوت أن هذا الخلل ساهم في إضعاف الردع الإسرائيلي، وجعل الجيش يدير الصراع من بعيد بدل خوضه على الأرض.
أحداث 7 أكتوبر كشفت هشاشة المفهوم الأمني
تجاهلت إسرائيل مؤشرات الإنذار، وغرقت في وهم بأن حماس غير معنية بحرب واسعة. فشل التكنولوجيا والمراقبة الحدوديّة أظهر أن الاعتماد المفرط على "الشاشات الذكية" جاء على حساب الجاهزية القتالية.
محاولات سابقة فاشلة لإعادة الصياغة
أُطلقت محاولات عديدة في أعوام 1998، 2006، و2013، لكنها بقيت ملفات نظرية غير مُعتمدة رسميًا، نتيجة الخلافات السياسية وهيمنة النمط العسكري التقليدي.
ثالثًا: أين انهارت العقيدة الأمنية في 7 أكتوبر 2023؟
شكّل هجوم حماس نقطة انهيار شاملة لخمسة أعمدة من نظرية الأمن:
1. انهيار الردع
رغم خمسة حروب مع غزة، افترضت إسرائيل أن حماس مردوعة. لكن العملية كشفت أن الردع لا يعمل مع فاعلين عقائديين.
2. غياب الإنذار المبكر
رغم امتلاك إسرائيل واحدة من أقوى أجهزة الاستخبارات عالميًا، فشلت في تفسير المؤشرات، نتيجة الغرور الأمني والثقة الزائدة.
3. فشل الحسم السريع
القتال داخل المستوطنات استمر لساعات طويلة بلا تدخل فوري، ما كشف عجزًا في الاستجابة التشغيلية.
4. انهيار مبدأ نقل المعركة إلى أرض العدو
لأول مرة منذ 1948، دارت الحرب في عمق النقب داخل إسرائيل نفسها، وانهارت حدودها أمام اقتحام غير مسبوق.
5. سقوط التكنولوجيا أمام أساليب بسيطة
تعطلت أنظمة المراقبة الذكية والقبة الحديدية وصلت إلى حدود قدرتها، فيما نجح مقاتلو حماس في استغلال نقاط الضعف بأساليب بسيطة.
رابعًا: تحولات إسرائيل العسكرية بعد السابع من أكتوبر
الحرب الطويلة بدلاً من الحسم السريع
انتقلت إسرائيل إلى نموذج حرب استنزاف طويلة الأمد، مع مناورات محدودة وسيطرة مؤقتة.
تصاعد البعد الديني في الخطاب العسكري
أصبحت لغة "الرسالة" و"التضحية" جزءًا أساسيًا من تعبئة الجيش والمجتمع.
تراجع قيمة الأسير
تحوّلت قضية الجنود المخطوفين من رمز وطني إلى "تفصيل" محسوب ضمن أهداف الحرب وتوازناتها.
العمل المتزامن على عدة جبهات
من غزة إلى لبنان وسوريا والعراق والضفة، تعمل إسرائيل على ضبط الإيقاع الإقليمي عبر "حروب موازية".
خامسًا: دعوات لإعادة بناء العقيدة الأمنية الإسرائيلية
تتركز الدعوات الجديدة حول:
بناء منظومة دفاعية متعددة الجبهات.
تبني مبدأ المبادرة والضربات الاستباقية وفق قواعد استخبارية صارمة.
دمج التكنولوجيا مع الإنسان بدل الاعتماد المفرط على التقنية.
تعزيز قدرات القوات البرية والاحتياط.
رفع مستوى المعرفة اللغوية والثقافية لدى العاملين بالساحات العربية.
تطوير نظم استخبارات تعتمد الذكاء الاصطناعي مع رقابة بشرية.
توحيد منظومات القيادة والسيطرة، وتحسين جاهزية فرق التأهب المحلية.
زيادة الاعتماد على الصناعات العسكرية المحلية.
سادسًا: مقاربات نظرية في إعادة صياغة العقيدة الأمنية
أفيتار متنيا: نحو سبع ركائز جديدة
يدعو متنيا إلى عقيدة محدثة تقوم على:
التكيّف المستمر.
بناء قوة متوازنة.
الردع الوقائي.
تحصين الجبهة الداخلية.
ترسيخ التحالف مع واشنطن.
دمج الاقتصاد والتكنولوجيا.
تعزيز الدفاع السيبراني.
آري شافيت: ضرورة صياغة رؤية وطنية جديدة
يدعو إلى إعادة بناء الأساس الفكري للردع الإسرائيلي وتطوير ثقافة أمن قومي تربوية.
غور ليش: المشكلة في التطبيق لا في النظرية
يرى أن الفشل نتاج أخطاء القيادة السياسية والعسكرية، وليس خللًا في العقيدة نفسها.
خاتمة: ما الذي يعنيه ذلك لمستقبل الأمن الإسرائيلي؟
توضح النقاشات أن إسرائيل أمام مفترق طرق تاريخي. فالعقيدة القديمة لم تعد قادرة على التعامل مع طبيعة التهديدات الجديدة، والاعتماد على القوة وحدها لم يعد كافيًا. إعادة الصياغة ليست ضربة قطيعة، بل إصلاح جذري يعيد الانسجام بين النظرية والتطبيق، ويحدد هوية إسرائيل الأمنية في عالم متسارع التحولات.
وفي النهاية، تمثّل هذه العملية ضرورة استراتيجية لتعزيز مكانة إسرائيل، وجعلها قادرة على مواجهة تحديات إقليمية ودولية تتسم بالغموض وعدم اليقين.