يشهد لبنان تشدداً غير مسبوق في الإجراءات المالية، في إطار منظومة «الامتثال» التي تفرضها الهيئات الدولية المعنية بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وجاء التعميم الأخير لمصرف لبنان، الذي يفرض على الشركات المالية تعبئة استمارة «اعرف عميلك» (KYC) لكل عملية نقدية تبلغ أو تتجاوز ألف دولار، ليؤكد أنّ المسار لم يعد مجرد إطار عام، بل شبكة متكاملة من القواعد الدقيقة التي تتحكم بكل تفصيل من تفاصيل الحركة المالية في البلاد.
بدأ مسار الامتثال في مطلع الألفية مع إدخال لبنان إلى دائرة الضغوط الدولية، التي وضعت بلدانه أمام خيارين: الامتثال الكامل للنظام المالي العالمي، أو الخروج منه. هذا النظام، الذي برزت أدواته من خلال FATF و«إغمونت» وOECD وغيرها، تحوّل تدريجياً إلى أداة للهيمنة السياسية. وكما يوضح نيكولاس مولدر في كتابه «السلاح الاقتصادي»، فإن العقوبات والضغوط المالية باتت وسائل لإعادة تشكيل سلوك الدول عبر التحكم بقدرتها على الوصول إلى النظام المالي العالمي. وهنا أصبحت مكافحة تبييض الأموال جزءاً من الترسانة الاقتصادية الحديثة.
لم يكن لبنان بمنأى عن هذا التحول. ففي عام 2001 أقرّ القانون 318 الذي أسس لمرحلة جديدة، عبر تعريف جرائم تبييض الأموال، وإنشاء هيئة التحقيق الخاصة داخل مصرف لبنان، المخولة رفع السرية المصرفية وتجميد الحسابات وتبادل المعلومات دولياً. وبعد ثلاث سنوات فقط خرج لبنان من لائحة الدول غير المتعاونة، وانضم إلى «إغمونت»، ما عزز ارتباطه بمنظومة الامتثال.
وفي عام 2015، أقرّ مجلس النواب القانون 44 الذي شكّل مرحلة مفصلية. توسعت المقاربة لتشمل مكافحة الفساد، وتقييم القطاعات الأكثر عرضة للمخاطر، وإلزام المؤسسات غير المصرفية بتطبيق معايير KYC. بات المحامي والسمسار والشركات العقارية خاضعين للموجبات نفسها المفروضة على المصارف، ما يعني انتقال لبنان من نموذج «الممتثل» إلى «المشارك» في عمليات الكشف والملاحقة.
القوانين اللاحقة عمّقت هذا التحول. القانون 42 فرض التصريح الإلزامي على الحدود عند نقل أكثر من 15 ألف دولار. القانون 55 أدخل لبنان في التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية CRS. أما القانون 77 عام 2018، فقد وسّع تعريف تمويل الإرهاب ليشمل أي مساعدة أو تسهيل قد يُستخدم لاحقاً في نشاط إرهابي، حتى من دون وقوع الجريمة.
تنفيذياً، شكّلت تعاميم مصرف لبنان العمود الفقري لهذه المنظومة. التعميم 83 فرض استمارات KYC لكل إيداع أو تحويل يفوق 15 ألف دولار. التعميمات 1 و2 و3 نقلت المعايير نفسها إلى شركات الاستثمار والتحويلات والمؤسسات غير المصرفية، وصولاً إلى التعميم الأخير الذي جعل تعبئة KYC إلزامية لأي عملية نقدية تفوق الألف دولار فقط.
بهذه الشبكة، لم يعد لبنان يكتفي بمنع تبييض الأموال، بل أصبح جزءاً من نظام رقابي عالمي يمنحه «شهادة حسن سلوك» أو يضعه على «اللائحة الرمادية». وهو نظام يعتمد اليوم أدقّ التفاصيل لتحديد المخاطر، ويستخدم أحياناً كأداة ضغط سياسية.
ويتزامن كل ذلك مع تاريخ طويل من الاستهداف الأميركي لحزب الله منذ 1997، إذ تطوّرت العقوبات من قوائم الإرهاب إلى الملاحقة المالية، مروراً بـHIFPA وHIFPA II، واتسعت الدائرة لتشمل رجال الأعمال والمؤسسات المحيطة بالبيئة المؤيدة للحزب، وصولاً إلى اعتباره جزءاً من منظومة اقتصادية كاملة يجب محاصرتها.