على وقع التحركات الدبلوماسية المتسارعة في مجلس الأمن، دخلت القاهرة ورام الله في جولة مشاورات حساسة تعكس حجم القلق الإقليمي من محاولات واشنطن إعادة صياغة مستقبل غزة بعد عامين من الحرب المدمّرة. الاتصال الذي جرى بين وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ونائب رئيس السلطة الفلسطينية حسين الشيخ لم يكن مجرد نقاش بروتوكولي، بل جزء من معركة سياسية حول شكل القرار الدولي المنتظر، وموقع الأطراف العربية فيه، وحدود الدور الإسرائيلي في ترتيبات ما بعد الحرب.
في الظاهر، تتحدث القاهرة ورام الله عن “السلام” و“الترتيبات الأمنية”. لكن في العمق، يدور صراع حول منع إعادة إنتاج الاحتلال بشكل جديد تحت مسمى “المرحلة الانتقالية”.
اتصال هاتفي... لكنه يحمل ثقل مرحلة سياسية دقيقة
أكد الجانبان، خلال الاتصال، أهمية أن يفضي مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن إلى تثبيت إنهاء الحرب وفتح مسار سياسي حقيقي يضمن حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة.
الحديث عن “تقرير المصير” عاد بقوة إلى المداولات الدبلوماسية، خصوصاً بعد سلسلة محاولات إسرائيلية للالتفاف على الوضع القانوني لغزة، وإعادة هندسة القطاع أمنياً وسياسياً عبر مقترحات “الإدارة المدنية” أو “الوصاية الإقليمية”.
مصر والسلطة الفلسطينية تتفقان على أن أي حل لا يتضمن اعترافاً واضحاً بالدولة الفلسطينية سيعيد المنطقة إلى نقطة الانفجار.
التنسيق المصري–الفلسطيني... دفاع مشترك عن مسار شرم الشيخ
الاتصال جاء في إطار التنسيق المستمر بشأن اتفاق شرم الشيخ للسلام. الاتفاق الذي دفعته القاهرة بقوة في أكتوبر الماضي بات اليوم أحد الملفات التي تريد أطراف إقليمية ودولية البناء عليها لإدارة مرحلة ما بعد الحرب.
الاتفاق ينصّ على:
تثبيت وقف إطلاق النار.
إطلاق مسار سياسي ملزم لقيام الدولة الفلسطينية.
بدء برنامج إعادة إعمار طويل الأمد.
ترتيبات أمنية تمنع الاحتلال من إعادة السيطرة المباشرة على القطاع.
القاهرة ترى نفسها الضامن الأول لهذا المسار، وأي مساس به يُعتبر مساساً بدورها الإقليمي وموقعها في معادلة الأمن القومي العربي.
البيان الأمريكي–العربي المشترك… دعم مشروط أم اصطفاف تكتيكي؟
أشار وزير الخارجية المصري إلى البيان الصادر قبل أيام عن الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية والإسلامية، الداعم لمشروع القرار الأمريكي.
البيان كان لافتاً لعدة أسباب:
1. اتساع قاعدة الدول المشاركة: قطر، مصر، السعودية، الإمارات، الأردن، تركيا، إندونيسيا، باكستان… وهي أوسع اصطفاف دبلوماسي منذ اندلاع الحرب.
2. التأكيد على “المسؤولية الجماعية” لدفع المجلس نحو قرار يُنهي الحرب ويضبط المرحلة التالية.
3. تجنّب أي لغة تمنح إسرائيل حق إدارة الملف الأمني في غزة.
لكن رغم ذلك، لا يزال الموقف العربي – خصوصاً القاهرة والدوحة – يرى أن واشنطن تحاول هندسة حل سياسي لا يرتكز على المرجعيات الدولية، بل على تفاهمات أمنية أولاً، وهو ما يشكل نقطة توتر خلف الكواليس.
إعادة إعمار غزة… مشروع ضخم بتمويل غير مضمون
استعرض عبد العاطي التحضيرات لعقد المؤتمر الدولي للتعافي المبكر وإعادة إعمار غزة، المتوقع عقده في القاهرة قريباً.
ملامح خطة شرم الشيخ للإعمار:
مدة التنفيذ: 5 سنوات
التكلفة المتوقعة: 50 مليار دولار
الأولويات:
البنية التحتية الأساسية
الخدمات الحيوية
التعافي الاجتماعي والإنساني
بناء وحدات سكنية جديدة
إعادة تشغيل شبكات المياه والكهرباء والصحة والتعليم
التحدي الأكبر ليس في الخطة، بل في الالتزام الدولي بتمويلها. التجارب السابقة – خصوصاً بعد حروب 2008 و2014 و2021 – كشفت أن الوعود الغربية والخليجية عادة ما تصطدم بالفيتو الإسرائيلي أو ببطء التنفيذ.
اليوم، تحاول القاهرة أن تنتزع تعهداً سياسياً دولياً ملزماً للإعمار ضمن قرار مجلس الأمن الجديد.
السياق السياسي الأوسع… واشنطن تريد “مرحلة انتقالية” والقاهرة تريد “حلّاً دائماً”
منذ طرح واشنطن لمسودة القرار، برزت نقاط خلاف أساسية:
ما تريده الولايات المتحدة:
ترتيبات أمنية انتقالية في غزة.
دور إقليمي (ربما مصري–أردني) في مراقبة الأمن.
مرحلة تمهيدية قبل أي حديث عن دولة فلسطينية.
ما تريده مصر والسلطة الفلسطينية:
وقف فوري ودائم لإطلاق النار.
بدء المسار السياسي فوراً دون مراحل مؤجلة.
عدم منح إسرائيل أي دور في إدارة غزة مستقبلاً.
إعادة الوحدة بين الضفة وغزة ضمن إطار سياسي فلسطيني–فلسطيني.
القاهرة تدرك أن “المرحلة الانتقالية” قد تتحول إلى احتلال مقنّع إذا لم تُحسم مرجعيات الحل بوضوح.
لحظة مفصلية في مستقبل غزة
تعكس المباحثات المصرية–الفلسطينية حالة استنفار دبلوماسي قبل القرار الدولي المرتقب. ورغم لغة التفاؤل الرسمية، إلا أن المنطقة تقف أمام مفترق طرق:
إما قرار دولي يفتح مساراً حقيقياً نحو الدولة الفلسطينية،
أو إعادة إنتاج دائرة الحرب والتدمير تحت عناوين “الترتيبات الأمنية” التي تسعى إسرائيل لفرضها.
القاهرة تدفع باتجاه الخيار الأول، مدفوعةً باعتبارين:
1. حماية الأمن القومي المصري.
2. ومنع واشنطن وتل أبيب من صياغة مستقبل غزة بمعزل عن الفلسطينيين والعرب.
الأسابيع المقبلة ستكون اختباراً لهذا التوازن الدقيق بين الدبلوماسية العربية ومشاريع الهيمنة الإسرائيلية–الأمريكية.