على مدار قرن من الزمن، شكّل المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة نموذجًا للاندماج والنجاح، مستفيدًا من التعليم العالي، والثروات الاقتصادية، والنفوذ السياسي، إضافة إلى الروابط الوثيقة مع إسرائيل. لكن اليوم، تشير المؤشرات إلى أن هذا "العصر الذهبي" يواجه خطر الانتهاء، بفعل مجموعة من التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة.
أليوت أبراهام، المفكر اليهودي والمحافظ المعروف، يرى أن "العصر الذهبي لقبول اليهود ونفوذهم في أميركا قد بدأ يتآكل بعد حرب غزة الأخيرة، مع عودة معاداة السامية وظهور انقسامات سياسية وثقافية داخل الجالية نفسها".
اليهود في أميركا: أرقام وتاريخ
يبلغ عدد اليهود الأميركيين نحو 7.5 ملايين نسمة، أي نحو 2.1% من السكان، وفق بيانات الحكومة الأميركية. بدأت الهجرات الأولى في القرن السابع عشر، وتضاعفت أعدادهم خصوصًا من أوروبا الشرقية، مع موجات ضخمة بين 1880 و1924.
أسس هؤلاء اليهود شبكة مجتمعية متماسكة، من معابد ومدارس وجمعيات، مع تركيز على التعليم، ما ساعدهم على الصعود السريع في الأعمال والسياسة والفنون خلال القرن العشرين. بعد الحرب العالمية الثانية، دخل اليهود مرحلة "الاندماج الذهبي"، إذ تمكنوا من احتلال مواقع قيادية في الإعلام والأوساط الأكاديمية والسياسة والاقتصاد.
إسرائيل، من جانبها، تحولت من عبء دبلوماسي إلى حليف استراتيجي بعد حرب 1967، وكانت الجالية اليهودية الأميركية في ذروة نفوذها السياسي والاجتماعي، مع دعم شعبي واسع لإسرائيل وانخفاض ملموس في مظاهر معاداة السامية.
التحولات الحديثة: أزمات الهوية والنفوذ
اليوم، يواجه اليهود الأميركيون ما يسميه المفكرون بـ"التآكل الثلاثي":
1. تراجع الهوية اليهودية: ارتفاع نسبة الزواج المختلط بين اليهود وغير اليهود، إذ تشير دراسة معهد "بيو" 2020 إلى أن أكثر من 70% من الزيجات اليهودية غير الأرثوذكسية تتم مع شركاء من ديانات أخرى، ونحو نصف الأطفال فقط يُربّون وفق التعليم اليهودي.
2. تراجع النفوذ السياسي: فشل اللوبي الصهيوني في حماية مصالح إسرائيل في الكونغرس، وتراجع الدعم الشعبي الأميركي لإسرائيل، وهو ما أقرّه ترامب نفسه في تصريحات سبتمبر الماضي: "اليوم لم يعد لإسرائيل لوبي قوي كما كان".
3. تزايد معاداة السامية والعداء لإسرائيل: نشاط سياسي ومعاداة لليهود داخل الجامعات والمؤسسات الثقافية والفنية، وصعود الخطاب المعادي لليهود في أوساط اليمين المتطرف واليسار الراديكالي، خصوصًا بعد الحرب على غزة.
صعود الانقسامات الداخلية
انتخاب زهران ممداني، عمدة نيويورك المناهض لسياسات إسرائيل، يسلط الضوء على الانقسامات داخل المجتمع اليهودي نفسه. أكثر من ثلث الناخبين اليهود دعموه، ما يعكس تحولات ثقافية وسياسية عميقة، وفقدان التوافق التقليدي حول دعم إسرائيل بشكل أعمى.
وفي الجامعات، أصبح النشاط المناهض لإسرائيل أمرًا مألوفًا، وبدأت الخطابات التي كانت تُعتبر معادية للسامية تتحول تدريجيًا إلى نقاش أكاديمي مشروع، وفق مراقبين يهود. هذا يعكس تقلص نفوذ الجالية في تكوين النخب المستقبلية، ما يُضعف "مثلث القوة" الذي جمع على مدى عقود الجالية اليهودية الأميركية، الدعم الشعبي والسياسي الأميركي، ودولة إسرائيل.
تداعيات حرب غزة على النفوذ اليهودي
الحرب الأخيرة على غزة أعادت تعريف العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، إذ انخفضت نسبة التعاطف الشعبي الأميركي مع إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، وبدأت الأصوات المطالبة بمراجعة الدعم تتصاعد داخل الحزبين الرئيسيين.
وبحسب مراقبين، فإن هذه التحولات قد تؤدي إلى انفصال جزئي بين الجالية اليهودية وسياسات إسرائيل، ما يعكس نهاية مرحلة النفوذ التقليدي الذي استمر عقودًا طويلة.
استعادة العصر الذهبي ممكنة؟
يخلص أبراهام إلى أن "العصر الذهبي" لليهود الأميركيين ربما انتهى، لكنه ليس مستحيل الاستعادة. الحل، بحسبه، يكمن في:
تعزيز الهوية اليهودية داخل أميركا، خصوصًا بين الشباب.
توجيه نصف التبرعات نحو المجتمع اليهودي وقضايا إسرائيل.
إعادة بناء النفوذ السياسي عبر تنشيط اللوبي الصهيوني واستعادة الدعم الشعبي.
في المحصلة، ما يحدث اليوم هو اختبار حقيقي لقدرة الجالية اليهودية على الحفاظ على نفوذها وهويتها، وسط مجتمع أميركي يتغير بسرعة، وتوترات دولية جديدة تشكل مستقبل العلاقات الأميركية-الإسرائيلية.