الشرخ اللاهوتي داخل المسيحية الأمريكية.. كيف ضربت حرب غزة أسس العقيدة الصهيونية؟

أماني إبراهيم

2025.11.15 - 10:04
Facebook Share
طباعة

شهدت الولايات المتحدة خلال العقود الماضية ما يمكن وصفه بـ“الحلف المقدّس” بين التيار الإنجيلي البروتستانتي المحافظ وبين المشروع الصهيوني. هذا التحالف لم يكن مجرد تقاطع سياسي ظرفي، بل تأسس على منظومة لاهوتية-عقائدية تسمّى المسيحية الصهيونية، نشأت منذ منتصف القرن العشرين وترسّخت داخل الكنائس والمدارس اللاهوتية ووسائل الإعلام اليمينية.

لكن حرب غزة وما تبعها من مجازر إسرائيلية وفضائح أخلاقية وسياسية أحدثت هزة عميقة داخل هذه القواعد. لأول مرة يظهر شرخ داخلي لا يمسّ مستوى المواقف السياسية فحسب، بل يضرب “أساسات” القراءة الدينية التي بُني عليها الدعم المسيحي المطلق لإسرائيل.

هذا التقرير يرصد هذا التحوّل، ويحلّل جذوره، ويعرض نماذج من داخل القاعدة المسيحية نفسها، ويشرح لماذا أصبحت حرب غزة نقطة الانكسار الحقيقية للعقيدة الصهيونية المسيحية.

 

لم تكن الحرب الإسرائيلية على غزة حدثًا سياسيًا فقط، بل صدمة روحية ولاهوتية داخل التيار المسيحي الإنجيلي في الولايات المتحدة—القاعدة الأهم تاريخيًا لدعم إسرائيل، والذراع العقائدية التي حملت المشروع الصهيوني على كتفيها لأكثر من سبعين عامًا.


لكن ما بدأ يظهر منذ أواخر 2023، ثم تضاعف خلال 2024–2025، هو انقسام داخلي غير مسبوق: ارتباك في العقيدة، تشكيك في التفسيرات البروتستانتية التقليدية لنبوءات “شعب الله المختار”، وقلق متزايد من الدور السياسي للوبيات الإسرائيلية في واشنطن.
هذه التحوّلات باتت، لأول مرة، تعصف بالأساسات اللاهوتية نفسها التي شكّلت الحاضنة التاريخية للمسيحية الصهيونية.


إعادة قراءة العقائد – هل انهارت “قداسة إسرائيل” في المخيال المسيحي الإنجيلي؟

شكّلت فكرة أن “إسرائيل هي الشعب المختار” الركيزة المركزية لفهم الإنجيليين للشرق الأوسط ولواجبهم السياسي تجاهه. لكن الحرب على غزة أدخلت هذه العقيدة في مرحلة إعادة فحص جذرية.
باتت الأسئلة التي تُطرح اليوم داخل الكنائس والمؤتمرات اللاهوتية تتجاوز السياسة إلى جوهر الإيمان نفسه:

هل الاختيار في العهد القديم يصلح أساسًا لسياسة أمريكية حديثة؟

هل تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 يُعد تحقيقًا لنبوءة توراتية، أم مشروعًا استعماريًا؟

وهل دعم اليهود دينيًا يعني بالضرورة دعم حكومات إسرائيل، بمجازرها واحتلالها وتمييزها العنصري؟


هذه الأسئلة لم تكن مطروحة قبل سنوات قليلة، حين كان الدعم المطلق لإسرائيل يُقدَّم للمؤمنين كواجب إيماني ثابت لا يحتمل الجدل.

 


صوت من الداخل – اعترافات إنجيليين يهتزّون من الداخل

التعليق الذي رصدته إحدى حلقات تاكر كارلسون ليس حالة فردية، بل بات نموذجًا متكررًا.
مسيحيون إنجيليون ينتمون للتيار التقليدي الأصولي بدأوا يعترفون بأنهم عاشوا عقودًا في عقيدة متماسكة ظاهريًا لكنها هشة من الداخل.

يقول أحدهم—في شهادة تجسد هذا الشرخ:

> “كنت أؤمن بأن دعم إسرائيل واجب ديني، وأن نبوءات آخر الزمان تدور حولها.
لكنني الآن أسمع لاهوتيين وقساوسة محافظين يقولون إن قراءتنا كانت خاطئة…
وإن دعم اليهود روحيًا لا يعني دعم حكومة إسرائيل سياسيًا.”

 

هذا الاعتراف يختصر حالة عامة بدأت تتسلل إلى عمق الكنائس:

التفرقة بين “اليهودية” و“إسرائيل السياسية”—وهي فكرة كانت محرّمة داخل الخطاب الإنجيلي طوال نصف قرن.

 


الحرب على غزة… اللحظة التي كسرت السردية المقدّسة

منذ أكتوبر 2023، لم تعد صور المجازر، والجثث، والأطفال تحت الأنقاض، وأصوات موظفي الإغاثة، تُرى باعتبارها “تفاصيل سياسية”، بل تحديًا أخلاقيًا ولاهوتيًا.
كيف يمكن لتيار يرفع شعار “المحبة المسيحية” أن يبرّر دعمًا غير مشروط لحكومة تمارس تدميرًا ممنهجًا لمدينة كاملة؟
السردية التي صمدت لسنوات لم تعد تصمد أمام الشاشات.

أمام هذه المشاهد، وجد كثير من الإنجيليين أنفسهم أمام سؤال وجودي:

هل الإيمان يُلزمهم بدعم دولة ترتكب جرائم واضحة ضد الإنسانية؟

هذه اللحظة الأخلاقية كانت نقطة الانعطاف الكبرى التي دفعت مئات الآلاف لإعادة التفكير.

 

اللوبيات الإسرائيلية… الجرح المسكوت عنه داخل اليمين المسيحي

من القضايا التي كانت تُعتبر “تابو” داخل التيار الإنجيلي، الحديث عن الدور الحقيقي للوبيات الإسرائيلية في الحكومة والكونغرس والإعلام.
لكن النقاش انفجر خلال العامين الماضيين، خصوصًا بعد صدامات داخل الحزب الجمهوري حول:

تمويل غير مشروط لإسرائيل

تدخل مجموعات ضغط إسرائيلية في تعيينات وتشريعات

توجيه خطابات المرشحين المحافظين


هذا الوعي الجديد خلق شعورًا بالاستغلال السياسي داخل القواعد المسيحية نفسها؛ إذ بدأ كثيرون يسألون:

هل تم استخدام إيماننا كأداة سياسية لدعم مشروع استعماري؟

هذا السؤال لوحده كفيل بإعادة رسم الخريطة الكاملة للعلاقة بين الصهيونية والمسيحية الأمريكية.

 


انقسام القيادات – كنائس تتمرد على عقائدها القديمة

لم يعد الانقسام مقتصرًا على القواعد الشعبية، بل وصل إلى:

قساوسة كبار يعلنون أن دعم إسرائيل “ليس واجبًا مسيحيًا”

لاهوتيين يعيدون قراءات نبوات نهاية الزمان

جامعات إنجيلية تعقد مؤتمرات لمراجعة “مبدأ الاختيار”

منابر معروفة تنتقد إسرائيل بصوت أعلى من أي وقت مضى


ظهرت داخل الكنائس نظرية جديدة تُعرف الآن بـ Anti-Zionist Evangelicalism،
وهي دعوة إلى فصل المسيحية تمامًا عن المشروع الصهيوني.

 


هل بدأ سقوط المسيحية الصهيونية؟

منذ خمسينيات القرن الماضي، كانت المسيحية الصهيونية تمثل “العصب” الذي يغذي إسرائيل سياسيًا داخل الولايات المتحدة.
لكن اليوم، ولأول مرة منذ تأسيس دولة الاحتلال، تزلزلت هذه القاعدة من الداخل.
قد لا نشهد انهيارها الكامل سريعًا، لكنها بدأت تخسر:

جيل الشباب الإنجيلي

قادة الرأي الجدد

مؤثرين يمينيين يغيّرون خطابهم

قواعد انتخابية لم تعد تتقبل صوتًا واحدًا بلا مساءلة


السؤال الذي يُطرح اليوم بجرأة:

إذا تخلّى الإنجيليون عن إسرائيل… من سيحملها سياسيًا بعد ذلك؟


مسمار في نعش مشروع ظلّ فوق النقد نصف قرن

الحرب على غزة لم تغيّر سياسة أمريكا فقط، بل كشفت تصدعات عقائدية أعمق، كانت مخفية تحت طبقات من الخطاب الديني-السياسي.
اليوم، يمر التيار الإنجيلي الأمريكي بأكبر مراجعة فكرية في تاريخه الحديث.
وللمرة الأولى، تصبح “قداسة إسرائيل” موضوعًا للنقاش، والشكّ، وربما السقوط.

وإذا كان المشروع الصهيوني قد بُني سياسيًا على التحالف مع هذه القاعدة العقائدية، فإن انهيار هذه القاعدة—حتى جزئيًا—قد يكون أول مسمار حقيقي في نعش المسيحية الصهيونية التي حكمت الوعي الأمريكي لسبعين عامًا.


البنية اللاهوتية للمسيحية الصهيونية… كيف صنعوا “قداسة” إسرائيل؟

نشأت المسيحية الصهيونية على مجموعة من المبادئ التي دُفعت بقوة داخل التيار الإنجيلي:

1. إسرائيل مركز النبوءات

يُقدَّم اليهود باعتبارهم “شعب الله المختار”، ويُنظر إلى قيام دولة الاحتلال عام 1948 على أنه تحقيق مباشر لنبوءات سفر دانيال وسفر الرؤيا.
هكذا تم تقديم الاحتلال باعتباره خطوة “إلهية”، وليس مشروعًا استعماريًا.

2. الدعم لإسرائيل واجب روحي

أُقنع ملايين الإنجيليين بأن الوقوف مع إسرائيل ليس خيارًا سياسيًا بل فرض ديني، وأن معارضة إسرائيل معناه الوقوف ضد “خطّة الرب”.

3. شيطنة العرب والمسلمين

على مدى عقود رسخت الكنائس اليمينية صورة العرب كأعداء لإسرائيل وبالتالي أعداء لله.
هذا البعد لعب دورًا مركزيًا في تبرير الجرائم الإسرائيلية وتقديسها.

4. توظيف السياسة لخدمة اللاهوت

اليمين الجمهوري – خاصة خلال عهد ترامب – استخدم الخطاب الديني لتغليف سياساته المؤيدة لإسرائيل.
فأصبح الدعم السياسي امتدادًا للإيمان الديني وليس موقفًا قابلًا للنقاش.


الشرخ الجديد… عندما بدأت القواعد المسيحية تشكّ في “السردية المقدسة”

حرب غزة لم تُظهر فقط حجم الوحشية الإسرائيلية، بل كشفت أيضًا كيف وظّفت إسرائيل المسيحية الصهيونية لخدمة مشروع استعماري فاقع.
وظهر لأول مرة تمرد داخلي نادر داخل القواعد الإنجيليّة نفسها.

النموذج الذي ذكرتِه — تعليق الإنجيلي التقليدي على مقابلة لتاكر كارلسون — هو مثال نموذجي لما يحدث داخل التيار المحافظ.

1. صدمة أخلاقية

المجازر العلنية في غزة — الأطفال المحترقون، المستشفيات المدمرة، المقابر الجماعية — تسببت في اهتزاز روحي لدى إنجيليين رأوا لأول مرة أن “إسرائيل ليست بريئة كما قيل لهم”.

2. اكتشاف التناقضات اللاهوتية

كتب الإنجيلي:“كنت أظن أن دعمي لإسرائيل تعليم كتابي ثابت، لكني الآن أسمع من قساوسة محافظين أنه قد يكون مبنيًا على تفسيرات خاطئة.”

 

هذه الجملة وحدها — في السياق الأمريكي — تمثل زلزالًا.

3. التشكيك في دور اللوبي الإسرائيلي

وجود لوبيات ضغط مثل AIPAC وشبكة التمويل المسيحي-الصهيوني جعل البعض لأول مرة يطرح سؤالًا خطيرًا:
هل دعمنا لإسرائيل خدمة لله أم خضوع لقوة سياسية؟

4. صعود أصوات مسيحية معارضة لإسرائيل

هناك موجة مسيحية جديدة — صغيرة لكن متصاعدة — تنادي بإعادة قراءة الكتاب المقدس في ضوء العدالة وحقوق الإنسان، لا وفقًا لتفسيرات سياسية صنعتها إسرائيل.

 


دور الإعلام اليميني المحافظ… من ماكينة دعم إسرائيل إلى منصة للشكوك

من المفارقات أن الشرخ لم يبدأ داخل الكنائس فقط، بل داخل الإعلام اليميني ذاته.
إعلاميون مثل تاكر كارلسون بدأوا بطرح أسئلة لمذ يكن يُسمح بطرحها سابقًا:
– لماذا تُجرّ الولايات المتحدة إلى حروب تخدم إسرائيل؟
– من يموّل السياسيين المؤيدين لإسرائيل بلا قيد؟
– هل الدعم غير المشروط يُضرّ بالمصلحة الأمريكية؟

هذه الأسئلة كانت كافية لإحداث ثورة فكرية داخل القاعدة الإنجيليّة التي اعتادت رؤية إسرائيل كـ“تابو مقدس”.


لماذا كانت حرب غزة نقطة الانكسار الكبرى؟

1. لأن حجم الجريمة تجاوز قدرة اللاهوت على التبرير

لم يعد ممكنًا دينيًا أو أخلاقيًا تبرير قتل آلاف الأطفال بحجة “نبوءة نهاية الزمان”.

2. لأن الحروب السابقة كانت تقارير… أما هذه فصور مباشرة

منصات مثل تيك توك ويوتيوب جعلت الإنجيلي يشاهد الجريمة في بث حي، ولم يعد يعتمد على “فلترة” الإعلام اليميني التقليدي.

3. لأن الانقسام السياسي الأمريكي بلغ ذروته

اليمين المحافظ انقلب على مؤسسات الدولة، بما فيها الخارجية والبنتاغون، التي يراها كثيرون “رهائن للوبي الإسرائيلي”.

4. لأن الشباب المسيحي الجديد يرفض القراءة الطائفية للكتاب المقدس

جيل Z المسيحي أكثر تحررًا وأقل خضوعًا للخطاب التقليدي.


- بداية تفكك «المسيحية الصهيونية»… أول مسمار في النعش؟

ما يحدث اليوم ليس مجرد جدل عابر.
إنه تفكّك لأحد أهم أعمدة النفوذ الإسرائيلي في الولايات المتحدة.

ملامح التحوّل:

تراجع دعم الشباب الإنجيلي لإسرائيل إلى أدنى مستوى في تاريخ أمريكا.

صعود أصوات كنسية تعلن أن “نصرة المظلوم أسبق من نصرة الأمة المختارة”.

انكشاف العلاقة المالية والسياسية بين اللوبي الإسرائيلي واليمين المتطرف.

تحوّل الخطاب المسيحي من “دعم إسرائيل لأسباب نبوية” إلى “محاسبة إسرائيل على جرائم حرب”.


للمرة الأولى منذ 70 عامًا يصبح الدعم المسيحي لإسرائيل قضية خلافية وليست يقينًا مقدسًا.

 

ماذا يعني ذلك؟

إذا استمر هذا الشرخ في التوسع — وهو مرشح لذلك بقوة — فإن إسرائيل ستفقد أحد أكبر مصادر قوتها داخل السياسة الأمريكية.

المسيحية الصهيونية التي غذّت المشروع الإسرائيلي لأجيال تتعرض الآن لـ هزيمة لاهوتية وأخلاقية، هي الأخطر منذ نشأتها.

إن الحرب على غزة لم تكشف فقط وحشية الاحتلال، بل كشفت أيضًا زيف القداسة التي صُنعت حوله، وربما تكون بالفعل بداية علمنة النقاش الديني وفك الارتباط بين المسيحية الأمريكية وبين المشروع العنصري الاستعماري الإسرائيلي.

وإذا تواصلت هذه العملية، فسنكون أمام تحول تاريخي يغيّر السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية بصورة جذرية.


 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 9