في وقتٍ كان يُفترض أن يشكّل وقف إطلاق النار في غزة فرصة لالتقاط الأنفاس وإطلاق مسار لإعادة الإعمار، تكشف صور أقمار اصطناعية حديثة عن استمرار إسرائيل في عمليات التدمير الممنهج في القطاع. الصور التي حللتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" أظهرت أن ما يزيد على 1500 مبنى تمّ تدميرها بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما يثير تساؤلات حول مدى التزام إسرائيل ببنود الاتفاق، ويفتح الباب أمام قراءة سياسية وإنسانية جديدة لما بعد الحرب.
تدمير واسع بعد الهدنة:
تُظهر الصور الملتقطة في 8 نوفمبر/تشرين الثاني استمرار عمليات الهدم على نطاق واسع في المناطق التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، حيث سُوّيت أحياء كاملة بالأرض. وأوضحت البيانات أن الدمار يتركز بشكل خاص في بلدة عبسان الكبيرة شرق خان يونس ومنطقة البيوك قرب رفح، فيما جُرفت آلاف الأبنية التي كانت لا تزال سليمة بعد وقف إطلاق النار.
“الخط الأصفر” وتحولات السيطرة:
يبدو أن منطقة ما يعرف بـ"الخط الأصفر" – وهو الحدّ الفاصل الذي انسحب إليه الجيش الإسرائيلي ضمن المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب – أصبحت محور التحركات الميدانية الإسرائيلية الأخيرة. وتشير المعطيات إلى أن عمليات الهدم تواصلت في محيط هذا الخط الذي يشمل أكثر من نصف مساحة القطاع، بما في ذلك أحياء الشجاعية ومناطق قريبة من مستشفى الإندونيسي شرق مدينة غزة، ما يعكس توجهاً إسرائيلياً لإعادة ترسيم مناطق النفوذ العسكري.
انتهاك واضح لاتفاق وقف إطلاق النار:
نقل تقرير “بي بي سي” عن الخبير الأمني “هـ. أ. هيللير” قوله إن ما يجري يشكّل “انتهاكاً واضحاً” لوقف إطلاق النار، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة “غير مستعدة للاعتراف بذلك رسمياً” حرصاً على عدم تعقيد المشهد السياسي بين واشنطن وتل أبيب ويرى مراقبون أن هذا الصمت الدولي يمنح إسرائيل غطاءً ضمنياً لمواصلة أعمالها العسكرية والتدميرية في القطاع تحت ذرائع “الأمن وإزالة الأنفاق”.
أوضاع إنسانية متدهورة رغم الهدنة:
على الصعيد الإنساني، لا تزال منظمات الإغاثة تصف الوضع في غزة بأنه "كارثي"، رغم مرور شهر على وقف النار وأكدت منظمة أطباء بلا حدود أن مئات الجرحى والمرضى يعجزون عن الوصول إلى المستشفيات الواقعة ضمن مناطق يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، في وقت تفرض فيه سلطات الاحتلال قيوداً مشددة على دخول الإمدادات الطبية والغذائية.
وقالت منسقة الطوارئ في المنظمة، كارولين سيغوين، إن آلاف المهجرين يعيشون في خيام تفتقر إلى الماء والكهرباء، وسط تفشٍ للأمراض الجلدية والتنفسية، معتبرة أن "المعاناة الحالية ليست قدراً بل نتيجة قرارات يمكن عكسها".
أرقام الحرب الثقيلة:
منذ بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2025، وثّقت المؤسسات الحقوقية الفلسطينية استشهاد 245 شخصاً وإصابة 627 آخرين، فيما انتُشلت جثامين 532 شهيداً من تحت أنقاض المباني المدمرة وقد خلّفت الحرب التي سبقت الهدنة أكثر من 69 ألف قتيل و170 ألف جريح، معظمهم من الأطفال والنساء، فضلاً عن تدمير نحو 90% من البنى التحتية المدنية.
سيناريوهات المرحلة المقبلة:
يرى محللون أن استمرار عمليات التدمير بعد الهدنة يشير إلى نية إسرائيل تكريس واقع ميداني جديد قبل أي تسوية سياسية شاملة السيناريو الأول يتمثل في فرض “منطقة أمنية” عازلة تمتد على طول “الخط الأصفر”، بينما يتخوف آخرون من أن تكون عمليات الهدم جزءاً من استراتيجية تهجير ممنهجة تهدف إلى منع عودة السكان إلى منازلهم في المناطق الحدودية.
في المقابل، يطالب الفلسطينيون والمجتمع الدولي بتفعيل آلية رقابة دولية مستقلة للتحقق من احترام اتفاق وقف إطلاق النار وضمان وصول المساعدات وإطلاق عملية إعادة الإعمار إلا أن غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف الكبرى يهدد بتحويل “الهدنة” إلى غطاءٍ لمرحلة جديدة من التدمير البطيء في غزة.