لم تكن زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى البيت الأبيض مجرد محطة في العلاقات الثنائية بين دمشق وواشنطن، بل حدثًا سياسيًا استثنائيًا يعكس لحظة مفصلية في مسار الشرق الأوسط بعد عقدين من الحروب والانقسامات. فالمشهد الذي رافق الزيارة كان أقرب إلى عرض رمزي مدروس أرادت واشنطن من خلاله أن تعيد تعريف علاقتها بالنظام السوري الجديد، دون أن تمنحه بعدُ “شرعية كاملة”.
مشهد الوصول: الباب الجانبي الذي قال كل شيء
منذ اللحظة الأولى، كانت الصورة تتحدث. دخل الشرع إلى البيت الأبيض عبر الباب الجانبي، لا المدخل الرئيسي المخصص عادةً لرؤساء الدول والوفود الرسمية.
قد تبدو هذه التفاصيل شكلية، لكنها في عالم البروتوكول لغة دقيقة ومقصودة. فالدخول من الباب الجانبي يعني ببساطة أن واشنطن لا تتعامل بعد مع ضيفها كرئيس دولة كامل الاعتراف، بل كـ"زعيم قيد الاختبار"، أو شخصية تسعى لإثبات أهليتها السياسية والدبلوماسية.
تزامن ذلك مع غياب كامل لأي مظاهر استقبال رسمي. لم يكن في انتظاره وزير أو مستشار رفيع، بل موظف صغير من طاقم المراسم. هذه الصورة التي التقطتها عدسات المصورين بدت أشبه بـ"بيان سياسي صامت"، تُعلن فيه واشنطن تحفظها من دون أن تنطق بكلمة واحدة.
لقاء بارد ومقصود: جلسة تقييم لا حوار سياسي
في الداخل، لم يكن المشهد أكثر دفئًا. الاجتماع الذي جرى في المكتب البيضاوي لم يتجاوز نصف الساعة، بلا مؤتمرات صحفية ولا تصريحات مشتركة. جلس الشرع في مواجهة مباشرة للرئيس الأميركي، في ترتيب يوحي بأن اللقاء أقرب إلى “جلسة تقييم” منها إلى “اجتماع متكافئ بين رئيسين”.
تجنّب الطرفان الابتسامات الطويلة والمجاملات الدبلوماسية المعتادة، وغاب عنها أي إشارة إلى مستقبل العلاقات أو اتفاقات تعاون.
مصادر دبلوماسية في واشنطن وصفت اللقاء بأنه "اجتماع جسّ نبض"، هدفه الأساسي قياس مدى استعداد النظام السوري للانخراط في مقاربة أميركية جديدة للمنطقة، تقوم على “الاستقرار مقابل الالتزام”، لا على “التحالف مقابل الولاء”.
ذاكرة واشنطن المثقلة بماضي الشرع
لكن خلف البروتوكول، تكمن السياسة. فالإدارة الأميركية لم تنسَ بعد أن أحمد الشرع كان قبل سنوات جزءًا من تنظيمات وُصفت بأنها “معادية للمصالح الغربية”، وأن تحوله السياسي لم يُختبر بعد في الميدان.
لذلك جاءت الإشارات البروتوكولية كرسالة تذكير بأن الشرعية السياسية لا تُمنح باللقاءات، بل تُكتسب بالأفعال.
وبينما حاولت دمشق تقديم الزيارة كـ"اختراق دبلوماسي تاريخي"، كانت واشنطن في المقابل تؤكد عبر كل تفصيل أنها لم تمنح الشرع بعد صكّ البراءة الكامل من ماضيه العسكري والسياسي.
الزيارة بين الاختبار والرسالة الإقليمية
توقيت الزيارة لم يكن معزولًا عن التحولات الإقليمية العميقة التي تشهدها المنطقة.
ففي الوقت الذي تتصاعد فيه الضغوط على إسرائيل في الجنوب السوري، وتتكاثر المبادرات لإعادة الإعمار بتمويل عربي مشروط، بدا أن واشنطن أرادت استخدام اللقاء مع الشرع كمنصة اختبار:
هل يمكن لسوريا الجديدة أن تكون شريكًا “قابلًا للتطويع” في الخريطة الأمنية المقبلة؟
وهل يمكن إدماجها في الترتيبات الأميركية من دون كسر التوازن مع إسرائيل؟
من هنا يمكن فهم “البرود المتعمّد” في استقبال الشرع، فهو جزء من لغة الضغط الناعم التي تعتمدها واشنطن مع الأنظمة التي تحاول استعادة موقعها في الإقليم. الرسالة كانت واضحة:
"البوابة الأميركية مفتوحة، لكن المرور مشروط."
رسائل إلى من يهمه الأمر
لم تكن الرسائل موجهة إلى دمشق وحدها. فخلف الكواليس، أرادت واشنطن أن تبعث بإشارة إلى كل من موسكو وطهران أيضًا، مفادها أن ملف سوريا لم يُغلق، وأن الكلمة النهائية في مستقبلها السياسي لا تزال تُصاغ في العاصمة الأميركية لا في سوتشي أو طهران.
كما أرادت طمأنة حلفائها في المنطقة – من تل أبيب إلى عمّان – بأن أي انفتاح محتمل على دمشق لن يكون بلا ضوابط، وأن الشرع لن يُمنح تفويضًا مفتوحًا قبل أن يُثبت عمليًا تغيّر سياساته تجاه الحدود الجنوبية، والقوى المحلية المسلحة، ومسارات التطبيع غير المباشر.
بين الماضي والمستقبل: واشنطن تُمسك بالمفتاح
النتيجة النهائية للزيارة يمكن تلخيصها في معادلة واحدة:
واشنطن لم تُغلق الباب أمام دمشق، لكنها أبقته مواربًا.
فهي لا تريد عودة الفوضى، لكنها أيضًا لا تثق بعد في النظام السوري الجديد.
الشرع من جهته، خرج من البيت الأبيض محمّلًا بانطباعات متناقضة: قبول شكلي من واشنطن، يقابله حذر شديد من مراكز القرار الأميركية التي لا تزال تنظر إليه كـ"رئيس مرحلة انتقالية غير محسومة".
زيارة بروتوكولية بلغة سياسية صريحة
بذلك، يمكن القول إن زيارة أحمد الشرع إلى واشنطن كانت درسًا دبلوماسيًا في لغة الرموز. فكل باب، وكل مقعد، وكل دقيقة في اللقاء، كانت تحمل معنى سياسيًا مقصودًا.
لقد أرادت واشنطن أن تقول لضيفها بوضوح:
“نراك، لكننا لم نثق بك بعد.”
وبينما احتفت دمشق بالزيارة بوصفها “انتصارًا للسياسة الجديدة”، قرأتها العواصم الإقليمية بوصفها صفعة بروتوكولية مغطاة بابتسامة رسمية.
في النهاية، الزيارة لم تفتح صفحة جديدة بين سوريا والولايات المتحدة، لكنها فتحت بابًا لنقاش أوسع حول موقع دمشق في النظام الإقليمي الجديد — بين الرغبة في العودة إلى الساحة، والخضوع لشروط اللعبة الأميركية الصارمة.