في الأسبوع الأخير من أكتوبر 2025، هبطت طائرة أميركية خاصة في مطار بيروت الدولي تقلّ وفدًا رفيع المستوى من وزارة الخزانة الأميركية، يقوده جون ك. هيرلي (John K. Hurley)، وكيل الوزارة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية.
كانت الزيارة محاطة بإجراءات أمنية غير مسبوقة، وكأنها تحمل في طياتها ما يتجاوز الطابع الدبلوماسي التقليدي.
لم يكن المشهد مجرّد محطة في جدول العلاقات الثنائية بين واشنطن وبيروت، بل أقرب إلى عملية “تفقد ميداني” شاملة لواقع دولة تُعتبر في نظر الإدارة الأميركية بؤرةً حساسة تتقاطع فيها ملفات السياسة الإقليمية والتمويل غير المشروع وشبكات النفوذ الأمني، ومنذ تلك اللحظة، بدا أن لبنان يدخل مرحلة جديدة لا تُدار من داخل حدوده فحسب، بل من غرف القرار في وزارة الخزانة الأميركية التي باتت تمارس دورًا مزدوجًا: اقتصاديًا في الشكل، أمنيًا واستخباراتيًا في الجوهر.
تحولت الزيارة إلى نقطة تحول في مسار “الوصاية المالية–الأمنية” التي ترسمها واشنطن بخطوات محسوبة، عبر أدوات ضغط مالية ومصرفية، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب وتمويل حزب الله.
وهكذا، لم يعد النقاش في لبنان محصورًا بمسائل الإصلاح المالي أو استعادة الثقة بالقطاع المصرفي، بل تجاوز ذلك إلى إعادة صياغة علاقة الدولة اللبنانية بالنظام المالي الدولي، ضمن معادلة جديدة تجعل السيادة الاقتصادية رهينة للاعتبارات الأمنية الأميركية.
تزامنت زيارة الوفد الأميركي إلى بيروت مع موجة من التغطية الإعلامية المتباينة، كشفت بشكل جلي عن الانقسام داخل الإعلام اللبناني بين من تبنى خطابًا مرحّبًا ومهذبًا، ومن حاول تمرير الرسائل الرسمية الأميركية دون الكشف عن مضمونها الحقيقي. بعض الصحف والمجلات اعتبرت الزيارة “خطوة نحو تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد المالي”، مُركزة على الجانب التقني من الإجراءات ومصوّرة إياها كجزء من التعاون الدولي الطبيعي.
في المقابل، ظهرت أصوات نقدية في الإعلام المستقل أو القريب من محور المقاومة، اعتبرت الزيارة تدخلاً سافراً في السيادة اللبنانية، محذرة من أن ما يُسوّق على أنه إصلاح مالي هو في الواقع وسيلة لإخضاع لبنان للوصاية الأميركية المالية–الأمنية. هذه التغطية، رغم صخبها الإعلامي، لم تصل دائمًا إلى الجمهور بنفس الوضوح بسبب أجواء الخوف من الردود الأميركية أو المحلية على من يكشف التفاصيل الحساسة.
اللافت أن القنوات الإعلامية المقرّبة من بعض الأطراف السياسية حاولت التعتيم على الجوانب الأمنية للزيارة، مكتفية بعبارات عامة وفضفاضة مثل “زيارة لبحث التعاون المالي”، متجنبة ذكر أسماء الصرافين المستهدفين، أو الحسابات المصرفية التي طلب الأميركيون تجميدها، أو تفاصيل إنشاء المكاتب الميدانية داخل مصرف لبنان.
إلا أن تسريبات من داخل القصر الجمهوري كشفت أن الاجتماعات مع الرئيس جوزف عون ووزير المالية تضمنت طلبات محددة بالأسماء والأرقام، حيث قدّم الوفد الأميركي ما يُعرف بـ “القائمة السوداء”، تشمل أفرادًا وشركات يُطالبون بإدراجها على لوائح العقوبات اللبنانية، وهو ما لم يُعلن عنه رسميًا في الإعلام.
هذه الفجوة بين ما يُعرض على الجمهور وما يُدار خلف الكواليس تبرز دور الإعلام اللبناني في سياق مناخ خوف وتضليل، حيث يُستخدم كأداة لتمرير رسائل سياسية محددة أو تهدئة الرأي العام، بدل أداء دوره التقليدي في التحقيق والتوضيح. في هذا المشهد، تصبح الشفافية الإعلامية مقياسًا آخر للصراع الداخلي والخارجي على لبنان، إذ يُختبر الصحافيون والمواطنون معًا في مدى قدرتهم على الوصول إلى الحقيقة وسط شبكة من المعلومات الرسمية والمسيّسة والتسريبات المقطوعة.
من واشنطن إلى بيروت.. الخزانة تدخل الميدان
الوفد الأميركي لم يأتِ من فراغ، بل جاء امتدادًا لسياسة مالية–أمنية ممنهجة صاغتها واشنطن في السنوات الأخيرة، حين تحوّلت وزارة الخزانة الأميركية من مجرّد مؤسسة مالية إلى أداة رئيسية في إدارة الصراعات الجيوسياسية. فهذه الوزارة، التي طالما وُصفت بأنها “الذراع الاقتصادية” للسياسة الخارجية الأميركية، تقود اليوم حربًا من نوعٍ آخر، حربًا بلا دبابات ولا طائرات، لكنّها لا تقلّ فتكًا: حرب العقوبات والتجفيف المالي.
منذ منتصف عام 2024، أطلقت الخزانة الأميركية حملة موسعة تحت عنوان «الضغط المالي الأقصى» (Maximum Financial Pressure)، وهي النسخة المحدّثة من استراتيجية “الضغط الأقصى” التي اعتمدتها إدارة ترامب ضد إيران، لكن بأدوات أكثر تعقيدًا وشمولًا. الهدف المعلن للحملة هو تفكيك شبكات التمويل التي تربط إيران بحلفائها في الشرق الأوسط، بدءًا من العراق وسوريا ولبنان، مرورًا باليمن وغزة، وصولًا إلى تركيا والإمارات كممرات مالية غير مباشرة.
في هذا الإطار، أُعلن عن جولة إقليمية يقودها جون ك. هيرلي تشمل إسرائيل وتركيا والإمارات ولبنان، وهي الدول التي تراها واشنطن نقاط الارتكاز الرئيسية في منظومة التمويل الشرق أوسطية.
البيان الرسمي الصادر عن وزارة الخزانة لم يترك مجالًا للتأويل، إذ جاء فيه:
> “تعمل وزارة الخزانة على منع الجماعات الإرهابية من الوصول إلى النظام المالي العالمي، وضمان عدم استغلال الاقتصادات المحلية لتمويل الإرهاب.”
لكنّ هذه الصيغة العامة تخفي خلفها ملفًا لبنانيًا بالغ الحساسية. فالترجمة العملية لهذا البيان في السياق اللبناني تعني شيئًا واحدًا: استهداف اقتصاد “الكاش” اللبناني وشبكات الصرافة والتحويلات غير الرسمية، التي تعتبرها واشنطن القنوات الأساسية التي تمرّ عبرها أموال إيران إلى حليفها الأقوى في لبنان، حزب الله.
وبينما يُقدَّم هذا التحرك على أنه “حماية للنظام المالي من الاستغلال”، يرى مراقبون لبنانيون أن الهدف الحقيقي هو إعادة هندسة المنظومة المالية اللبنانية بالكامل، بحيث تُصبح خاضعة لرقابة أميركية مباشرة تحت شعار مكافحة الإرهاب. بذلك، تنتقل الخزانة الأميركية من دور “المراقب الدولي” إلى فاعلٍ ميدانيٍّ داخل الاقتصاد اللبناني، ما يثير تساؤلات عميقة حول مدى استقلالية القرار المالي في بيروت خلال المرحلة المقبلة.
لبنان في مرمى «الرقابة الذكية»
منذ أكثر من أربع سنوات، يعيش لبنان في قلب انهيار اقتصادي هو الأعمق في تاريخه الحديث، تهاوت معه الليرة اللبنانية إلى ما دون عُشر قيمتها السابقة، وتبخّرت الودائع، وانهار النظام المصرفي الذي كان يُوصف يومًا بأنه «عمود الاقتصاد اللبناني». ومع انسداد الأفق السياسي والمالي، لجأ اللبنانيون — أفرادًا وتجارًا ومؤسسات — إلى اقتصاد موازٍ بالكامل يقوم على التداول النقدي بالدولار، خارج أي رقابة مصرفية أو ضريبية.
لكن ما يراه اللبنانيون “ملاذًا اضطراريًا” للنجاة من الانهيار، تنظر إليه واشنطن من زاوية مختلفة تمامًا. فبالنسبة إلى وزارة الخزانة الأميركية، الاقتصاد النقدي (Cash Economy) ليس مجرد نتيجة لأزمة داخلية، بل بيئة خصبة لتبييض الأموال وتمويل الجماعات المصنّفة إرهابية، وعلى رأسها حزب الله. هذه الرؤية الأمنية الجديدة جعلت من لبنان، في نظر الأميركيين، مختبرًا لتجربة أدوات “الرقابة الذكية” — مزيج من التكنولوجيا المالية، والتتبّع الاستخباراتي، والعقوبات الموجهة — في محاولة لإعادة الإمساك بالدورة النقدية خارج النظام المصرفي الرسمي.
التقارير الاستخباراتية والمالية الأميركية التي تسرّبت في الأشهر الأخيرة تحدثت بوضوح عن أن نحو 9 مليارات دولار من النقد الأميركي تتداول داخل السوق اللبنانية وخارجها دون المرور بأي قناة رسمية. هذه الأموال، بحسب التقديرات الأميركية، تتحرك يوميًا عبر شبكات الصرافة، التحويلات اليدوية، والتجارة البرّية مع سوريا، وتُستخدم — جزئيًا — في تمويل عمليات تتعارض مع منظومة العقوبات المفروضة على إيران وحلفائها.
لذلك، لم تكن زيارة وفد وزارة الخزانة إلى بيروت زيارة تفقدية عادية، بل إنذارًا مبكرًا بصيغة دبلوماسية: إمّا أن يدخل لبنان في منظومة “الرقابة الذكية” التي تفرضها واشنطن طوعًا، أو أن يواجه عقوبات مالية تصعيدية قد تشمل مصارف وصيارفة وتجارًا، وربما مؤسسات رسمية يُشتبه في تسهيلها عمليات مالية غير مشروعة.
بهذه المعادلة الجديدة، يتحول لبنان إلى نقطة اختبار رئيسية في مشروع أميركي أوسع يهدف إلى دمج أدوات المراقبة المالية ضمن منظومات الأمن الإقليمي، بحيث يصبح التحكم في التدفقات النقدية وسيلة من وسائل السيطرة السياسية. وفي ظل الانهيار البنيوي الذي يعيشه لبنان، تبدو قدرة بيروت على مقاومة هذا النوع من “الوصاية الذكية” محدودة، إن لم تكن منعدمة تمامًا.
خلية أزمة داخل البيت الأبيض
لم تكن زيارة وفد وزارة الخزانة إلى بيروت مجرد خطوة سيادية أو جولة تفاوضية عابرة، بل إعلان عملي عن تفعيل خلية أزمة أميركية مخصّصة للبنان داخل أروقة القرار في واشنطن. هذه الخلية، بحسب المصادر، تعمل كآلية طوارئ متعدّدة الطبقات تضمّ مسؤولين من وزارة الخزانة ووكالات استخباراتية وإنفاذ قانون فيدرالية، وهدفها ليس فقط رصد التدفقات المالية وإنما إعادة هيكلة أدوات ضبط هذه التدفقات بآليات استباقية وليس ردّية فحسب. تحويل مثل هذا الملف إلى مستوى خلية أزمة يعني أن الموضوع صار يُدار بموارد استخباراتية ودبلوماسية وقانونية كبيرة، وبسرعة استجابة أعلى من القنوات التقليدية.
الهيكلية المشتركة التي أُشيع عنها تحت اسم “TFI Task Force–Lebanon” تشير إلى نهج متكامل يجمع بين المعطيات الاستخباراتية والتحليلات المالية والإجراءات القانونية الدولية. على الورق، الهدف المعلن هو “تفكيك البنية التحتية المالية لحزب الله”، لكن أدوات التنفيذ تمسُّ قطاعات حساسة — من تعقب الحوالات غير الرسمية إلى مراقبة شبكات الصرافة والتدقيق في سلاسل التوريد عبر الحدود. هذا التكامل بين الاستخبارات والمالية يعزّز قدرة الطرف الأميركي على تحويل أدلة استخباراتية إلى إجراءات اقتصادية سريعة: إشعارات بنكية، قوائم مراقبة، وتجميد أصول محتمل — خطوات يمكن أن تُحدث أثرًا فوريًا في سوق نقدي هشّ مثل السوق اللبناني.
إحدى الأدوات التي تبدو مركزية في استراتيجية الخلية هي تجنيد الوسطاء الماليين المحليين — الصيارفة، سماسرة الحوالات، وحتى بعض الوسطاء التجاريين — لتحويلهم إلى مصادر معلومات أو متعاونين تحت برامج “تبادل معلومات مالية” أو برامج حماية شهود. هذه الخطوة تغيّر من طبيعة التعامل مع الشبكات المالية: فالضغط لا يقتصر على الاستهداف القانوني لمؤسسات كبيرة، بل يتعداها إلى قطع حلقات الاتصال الصغيرة التي تبقِ الدورة النقدية حية. ومن هنا تصبح الرسالة العملية للولايات المتحدة مزدوجة: إما الانخراط الطوعي في شبكات امتثال ومشاركة معلومات، أو المخاطرة بأن يتحوّل الوسيط من شريك إلى شاهد أو متّهم.
التدخّل الأميركي الميداني — كما وصفه مصدر لبناني قريب من الأجهزة المعنية — لا يكتفي بالمراقبة من الخارج بل ينفذ إلى داخل مؤسسات لبنانية حيوية. طلب “أسماء وسجلات محددة” من داخل مصرف لبنان ووحدات المراقبة المالية يعني أن التوافق بين السلطات المحلية والجهات الأميركية سيصبح معيارًا لتجنّب العقوبات والضغوط. هذا الأمر يضع السلطات اللبنانية في معضلة مزدوجة: بين الحفاظ على ما تبقّى من سيادة مؤسساتية وبين تلبية مطالب خارجية قد تُعدّها طبقات داخلية خرقًا للخصوصية أو المساءلة السيادية.
النتيجة السياسية ممكن أن تكون عميقة: من جهة، قد تُمكّن هذه الخلية واشنطن من تقليص قدرة شبكات التمويل غير الرسمية على العمل، لكن من جهة أخرى، فهي تُعرّض المشهد اللبناني لتقلبات اجتماعية وسياسية جديدة — صراعات حول مشروعية من يتعاون ومع من تُحمّل مسؤولية الانهيار المالي. في المقلب الشعبي والمؤسسي، قد يؤدي الضغط إلى تفاقم شكاوى الاستهداف والوصاية، وإلى ردود فعل تُصعّب على الحكومة اللبنانية التفويض السياسي لقبول عمليات رقابية موسعة. وفي كل الأحوال، فإن تحويل الملف المالي إلى أداة أمنية يجعل المسألة اللبنانية أقل اقتصادًا منها استراتيجية، ويُعيد طرح سؤال سيادي مركزي حول من يدير مفاتيح القرار في بيروت عندما يتعلق الأمر بتدفقات المال.
من هم رجال واشنطن الذين نزلوا إلى بيروت؟
لم تكن الزيارة الأميركية إلى بيروت مجرّد بروتوكول ديبلوماسي، بل عملية ميدانية متكاملة حملت في طيّاتها فريقًا خاصًا من مهندسي الرقابة المالية والاستخبارات الاقتصادية. فالوفد لم يضم موظفين إداريين بل شخصيات ذات خلفيات أمنية ومالية وأكاديمية متشابكة، تعكس بوضوح طبيعة المرحلة الجديدة التي تتعامل فيها واشنطن مع لبنان كـ ملف أمني–مالي واحد لا يمكن فصله بين السياسة والاقتصاد.
جون ك. هيرلي – “مهندس الرقابة المالية”
يُعدّ جون ك. هيرلي الشخصية المحورية في هذه الزيارة، وهو العقل المدبّر لسياسة الخزانة الأميركية تجاه الشرق الأوسط. تولّى منذ يوليو 2025 منصب وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، وهو المنصب الذي يجمع تحت سلطته شبكات التعاون المالي، وآليات العقوبات، ووحدات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (AML/CFT).
هيرلي ليس دبلوماسيًا تقليديًا؛ فهو يجمع بين الخبرة الأكاديمية والتحليل المالي العميق، حيث عمل سابقًا في شركتَي Cavalry Asset Management وT.G.K. Ventures، إضافة إلى كونه محاضرًا في جامعة ستانفورد، ما منحه القدرة على التعامل مع الملفات الاقتصادية الحساسة بعقلية “إدارة المخاطر” أكثر من “إدارة العلاقات”.
في مقابلة مع وكالة رويترز، أطلق هيرلي تصريحًا عكس جوهر رؤيته: “هناك لحظة الآن في لبنان. إذا تمكّنا من فصل العلاقة بين إيران وحزب الله، يمكن للشعب اللبناني أن يستعيد بلده.”
هذه العبارة ليست توصيفًا سياسيًا عابرًا، بل إعلانًا عن تحوّل جذري في مفهوم “تحرير لبنان” داخل واشنطن: من تحرير سياسي إلى تحرير مالي، عبر فصل الاقتصاد اللبناني عن الشبكات المرتبطة بإيران. ومن هنا يمكن فهم زيارته إلى بيروت كمقدمة لتطبيق خطة “الوصاية المالية الذكية” التي تحددها الخزانة الأميركية في الميدان.
رودولف أتالا – “رجل المهمات الميدانية”
رودولف أتالا، ضابط سابق في سلاح الجو الأميركي برتبة ملازم أول، خدم أكثر من 21 عامًا في ملفات مكافحة الإرهاب والاستخبارات في الشرق الأوسط وإفريقيا. وجوده في الوفد لم يكن رمزيًا، بل ضرورة عملياتية، إذ يمثل “العين الميدانية” التي تنقل إلى واشنطن تفاصيل البيئة الأمنية–المالية على الأرض اللبنانية.
أتالا معروف داخل الدوائر الأميركية بأنه الخبير الذي يجمع بين فهم الجغرافيا الأمنية والاقتصاد الموازي، وهو الجسر الذي يربط الخزانة الأميركية بالبنتاغون. لذلك لم يكن مفاجئًا أن تشير مصادر لبنانية إلى لقائه غير المعلن مع قائد الجيش العماد جوزف عون في قصر بعبدا، حيث جرى التداول في ملف “التهريب عبر الحدود السورية” — أحد أبرز منافذ التدفقات النقدية والسلعية غير المشروعة التي تتابعها واشنطن عن كثب.
هذا اللقاء، وإن لم يُعلن رسميًا، يعكس الطابع العسكري–الأمني للبعثة الأميركية، ويؤكد أن الملفات المالية في لبنان لم تعد تُعالج بمعزل عن المسار الأمني والعسكري.
سيباستيان غوركا – “المفكر الأمني”
أما حضور سيباستيان غوركا، الخبير البريطاني–الأميركي في شؤون مكافحة الإرهاب والمستشار السابق في إدارة ترامب، فكان بمثابة البوصلة الفكرية للوفد. غوركا الذي عُرف بنظرياته حول “الإرهاب الهجين” ودور الاقتصاد الموازي في تمويل الحروب غير التقليدية، شارك في الوفد بصفة استشارية رمزية، لكن وجوده أرسل إشارة سياسية واضحة: أن واشنطن ترى في الملف المالي اللبناني امتدادًا لمعادلة أمنية أشمل في الإقليم، وليس قضية اقتصادية فحسب.
حضور غوركا يعني أن النقاش في واشنطن انتقل من “كيف نُنقذ لبنان ماليًا؟” إلى “كيف نُعيد تشكيله أمنيًا عبر أدوات المال؟”، وهو تحوّل بالغ الدلالة على طبيعة المرحلة المقبلة.
الاقتصاد النقدي تحت المجهر
الملف المركزي الذي حمله الوفد كان اقتصاد الكاش اللبناني، وهو اليوم عصب الحياة اليومية في بلدٍ انهار نظامه المصرفي وتحوّل إلى اقتصاد نقدي شبه كامل. تشير تقديرات محلية ودولية إلى أن نحو 70% من المعاملات في لبنان تتم نقدًا، وأن ما يزيد عن 40 ألف صرّاف ووسيط مالي غير مرخّص ينشطون في السوق، كثير منهم مرتبطون بشبكات تهريب سلاح ومحروقات وتجارة حدودية مع سوريا.
في نظر واشنطن، هذا النظام الموازي هو الاقتصاد البديل لإيران في المشرق، وهو الذي يمد حزب الله بالأوكسجين المالي الضروري لبقائه. لذلك، ربط هيرلي خلال لقائه بمسؤولي مصرف لبنان ووزارة المالية أيّ برنامج مساعدات أو دعم مالي بإطلاق نظام إلكتروني موحّد للصرافين يخضع مباشرة لرقابة دولية، ويُشغّل ضمن برامج مشتركة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
لكنّ هذه الخطوة، وإن بدت إصلاحية، تُثير جدلاً حادًا داخل لبنان. فمسؤول مصرفي لبناني علّق بالقول:
“تطبيق هذه الإجراءات يعني فعليًا وضع النظام النقدي اللبناني تحت إشراف وزارة الخزانة الأميركية... هذا انتهاك واضح للسيادة، لكنه أصبح واقعًا مفروضًا.”
بهذا المعنى، لا تمثّل “خطة الخزانة” مجرد محاولة لتنظيم السوق النقدي، بل إعادة هندسة جذرية للنظام المالي اللبناني تحت سقف الرؤية الأميركية للأمن الإقليمي. إنها وصاية جديدة، ناعمة في الشكل، لكنها محكمة في المضمون.
«المكتب الميداني» داخل مصرف لبنان
الخطوة الأخطر التي حملها الوفد الأميركي إلى بيروت لم تكن في ظاهرها سياسية، بل إدارية–تقنية، لكنها تحمل في عمقها تحوّلًا جذريًا في سيادة لبنان المالية. فقد كشفت مصادر مالية لبنانية مطّلعة أن الجانب الأميركي طرح على طاولة النقاش مع الحاكم بالإنابة في مصرف لبنان خطة لإنشاء “مكتب ميداني مشترك” داخل المصرف المركزي، يعمل كقناة مباشرة للتنسيق مع هيئات الرقابة الأميركية وعلى رأسها FinCEN (شبكة مكافحة الجرائم المالية) وOFAC (مكتب مراقبة الأصول الأجنبية).
إذا ما أُقرّ هذا المكتب رسميًا، فسيكون الأول من نوعه في الشرق الأوسط، ويمثّل سابقة في العلاقات المالية بين واشنطن ودولة أجنبية ذات سيادة. فالمقصود ليس مجرد تبادل معلومات أو تدريب فني، بل وجود ميداني أميركي دائم داخل مؤسسة سيادية لبنانية، ما يعني عمليًا أن الولايات المتحدة ستتمكن من مراقبة التحويلات التي تمرّ عبر النظام المالي اللبناني بالدولار الأميركي، خطوة بخطوة، ومن دون الحاجة إلى وسطاء.
الطرح الأميركي جاء مغطى بعبارة جذّابة هي “تعزيز الشفافية ومحاربة غسل الأموال”، لكنه في الجوهر يعكس تحولًا من الرقابة غير المباشرة إلى الإدارة المشتركة للنظام المالي. فوفقًا لمصادر مصرفية لبنانية، يتضمن المقترح الأميركي أن يتم ربط قواعد بيانات التحويلات المالية في مصرف لبنان بشكل مباشر بأنظمة FinCEN وOFAC، ما يمنح واشنطن إمكانية تتبع كل حركة دولار تمر عبر بيروت — من تحويلات الأفراد إلى المعاملات التجارية، وصولًا إلى التحاويل القادمة من سوريا والعراق التي تراها واشنطن قنوات تمويل غير مشروعة.
وفي حال تطبيق هذه الآلية، سيصبح لبنان فعليًا جزءًا من “شبكة الامتثال المالي الأميركية”، أي أنه يُدار من داخل منظومة الخزانة الأميركية وليس فقط من خارجها. هذه الخطوة، بحسب خبراء لبنانيين، تحمل انعكاسات سياسية واقتصادية واسعة:
فمن جهة، قد تمنح بيروت غطاءً دوليًا لاستعادة ثقة الأسواق والمصارف المراسلة.
لكن من جهة أخرى، فإنها تعني أن أي معاملة مالية بالدولار ستكون خاضعة لمعايير الأمن القومي الأميركي، لا للقوانين اللبنانية.
مصدر مالي لبناني وصف الأمر بقوله:
“ما يُقدَّم كإصلاح مالي هو في الواقع نظام وصاية جديد، لا يختلف كثيرًا عن وجود مفتش أميركي دائم داخل المصرف المركزي. الفرق الوحيد أن الوصاية اليوم رقمية وليست عسكرية.”
بهذه الخطوة، تنتقل واشنطن من مرحلة الضغط الخارجي بالعقوبات إلى مرحلة النفوذ البنيوي داخل المؤسسات المالية اللبنانية. وإذا ما نجحت في فرض هذا المكتب، فإنها تكون قد أغلقت الحلقة الأخيرة في مشروع “الرقابة الذكية”، حيث يتحوّل مصرف لبنان نفسه إلى محطة مراقبة أمامية في منظومة الأمن المالي الأميركي في الشرق الأوسط.
بين التهريب والعقوبات.. لبنان في “نفق مزدوج”
منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، تحوّلت الحدود اللبنانية–السورية إلى شريان اقتصادي موازٍ للدولة، قائم على التهريب المتبادل الذي شمل كل شيء تقريبًا: الوقود، القمح، السلاح، الأدوية، المواد الغذائية، وحتى النقد الصعب. ومع انهيار البنية المصرفية اللبنانية وتراجع الثقة في النظام المالي الرسمي، أصبح هذا التهريب قطاعًا قائماً بذاته، لا يُدار من الهامش بل من شبكات منظمة تمتد بين البقاع والهرمل والقصير وصولًا إلى حمص ودمشق.
ما بدأ كاقتصاد ظلّ لتجاوز العقوبات الغربية على دمشق، تطوّر تدريجيًا إلى منظومة تمويل إقليمية موازية، حيث يتدفّق المال والبضائع عبر المعابر غير الشرعية في الاتجاهين، دون أن تمرّ عبر أي إشراف رسمي. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن ما بين 100 و200 مليون دولار أميركي نقدًا تُهرّب شهريًا عبر الحدود البرّية بين البلدين، جزءٌ كبير منها يُستخدم في تمويل أنشطة حزب الله أو شبكات تجارية مرتبطة بإيران، في حين يذهب جزء آخر لتمويل تجارة المحروقات والسلاح في السوق السوداء.
من وجهة النظر الأميركية، هذا الواقع لم يعد مجرد “مشكلة تهريب”، بل تهديد مباشر للبنية العقابية التي تعتمدها واشنطن ضد طهران وحلفائها. فكل دولار يُنقل خارج النظام المصرفي الرسمي هو خرق للعقوبات الدولية، وكل عملية تهريب ناجحة تعني فشلًا في تطبيق استراتيجية “الضغط المالي الأقصى”. ولهذا السبب، شدّد الوفد الأميركي خلال زيارته لبيروت على ضرورة إغلاق الثغرات الحدودية بين سوريا ولبنان، ليس فقط لمنع تهريب البضائع، بل قبل كل شيء لمنع تهريب الأموال.
المفاجأة أن الخطة الأميركية لا تقتصر على الضغط السياسي، بل تشمل تدخلاً ميدانياً تقنياً. فقد كشفت تسريبات لبنانية عن مناقشات لتفعيل برنامج مراقبة حدودي مشترك، يشمل نشر منظومات رادار وكاميرات حرارية أميركية الصنع في عدد من المعابر المحددة، بإشراف الجيش اللبناني وبدعم فني من البنتاغون. هذه الخطوة، التي وُصفت بأنها “غير مسبوقة”، تعني عمليًا مشاركة أميركية غير مباشرة في مراقبة الحدود البرّية، وتحويل الشريط الحدودي من منطقة نشاط تجاري رمادي إلى منطقة أمنية ذات بعد استخباراتي.
لكنّ هذه الخطوة تضع لبنان في نفق مزدوج: فمن جهة، هو مطالب بالتعاون مع واشنطن لضمان استمرار المساعدات المالية والعسكرية، ومن جهة أخرى، يخاطر بإغضاب دمشق وطهران اللتين تعتبران أن أي وجود رقابي أميركي على الحدود يشكّل اختراقًا أمنيًا وسياديًا خطيرًا.
في هذا السياق، يبدو لبنان كمن يسير على حبل مشدود بين مقصّ العقوبات الأميركية ومطرقة النفوذ الإيراني–السوري، فيما تتآكل قدرته على رسم سياساته الحدودية والمالية بشكل مستقل. وبينما تصف واشنطن تدخّلها بأنه “إصلاح أمني ضروري”، يراه كثير من اللبنانيين تدخلاً صامتًا يعيد رسم حدود البلد من الخارج، ويحوّل سيادته إلى ملف تفاوضي في لعبة النفوذ الإقليمي.
بين الإصلاح المالي والابتزاز السياسي
في ظاهرها، حملت زيارة الوفد الأميركي إلى بيروت عنوانًا تقنيًا جذّابًا: دعم الإصلاحات المالية ومحاربة الفساد، في سياق التعاون مع الحكومة اللبنانية لتطبيق معايير الشفافية الدولية. لكنّ خلف هذا الغطاء الإصلاحي تكمن أجندة سياسية وأمنية دقيقة، تعكس انتقال واشنطن من موقع “الجهة المانحة المشروطة” إلى موقع “الوصي المالي الفعلي” على القرار الاقتصادي اللبناني.
منذ انهيار النظام المصرفي اللبناني عام 2019، تحوّلت البلاد إلى مختبر للسياسات المالية الأميركية في الشرق الأوسط. فالمؤسسات الدولية –من صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي– باتت تعتمد إلى حدّ كبير على تقييمات وزارة الخزانة الأميركية عند تحديد شروط التمويل أو منح القروض. ولهذا، فإن أي برنامج إنقاذ أو دعم مالي للبنان لن يُقرّ دون موافقة ضمنية من واشنطن، التي أصبحت تمسك بمفاتيح تدفّق الدولار عبر شبكة البنوك المراسلة والمؤسسات الرقابية.
أحد أبرز محاور النقاش خلال الزيارة تمثّل في ربط التمويل الدولي بشروط أمنية واضحة. فكل مساعدة مالية من صندوق النقد أو الاتحاد الأوروبي ستكون مشروطة بتطبيق صارم لإصلاحات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وفق المعايير الأميركية لا اللبنانية، أي أن بيروت مطالبة عمليًا بمواءمة قوانينها وأنظمتها مع منظومة “FinCEN” و”OFAC”، ما يجعلها تابعة وظيفيًا للرقابة الأميركية المباشرة.
غير أن الأخطر من ذلك هو ما وصفه بعض الاقتصاديين بـ “إعادة توجيه القرار المالي اللبناني”. فوزارة الخزانة الأميركية لم تعد تكتفي بإصدار العقوبات على أفراد أو مؤسسات، بل تسعى لتصبح شريكًا في الإدارة اليومية للمنظومة المالية، تُحدّد المعايير، وتفرض الإجراءات، وتتابع التنفيذ، ثم تُصدر التقارير.
يقول أحد المحللين الماليين اللبنانيين، في تعليق عاكس لحالة القلق السائدة:“ما يحدث اليوم هو انتقال لبنان من مرحلة الحصار الاقتصادي إلى مرحلة الإدارة المباشرة... الأميركي الآن لا يعاقب فقط، بل يُدير.”
وهذا “الإشراف المالي غير المعلن” يعيد تشكيل طبيعة العلاقة بين بيروت وواشنطن: فبعد أن كان الضغط الأميركي يهدف إلى تقييد حركة حزب الله ماليًا، أصبح اليوم يمسّ جوهر السيادة الاقتصادية نفسها، حيث تتحوّل إصلاحات الشفافية إلى أدوات ابتزاز سياسي تُستخدم لإخضاع القرار المالي اللبناني لإرادة واشنطن.
في الجوهر، لا تبدو المسألة مجرد إصلاح اقتصادي، بل إعادة هندسة شاملة لمركز القرار المالي في لبنان، تُنقل فيه أدوات الرقابة من الداخل إلى الخارج، وتتحوّل بيروت إلى ساحة اختبارٍ لمفهوم “الوصاية المالية–الأمنية” الأميركية في الشرق الأوسط.
من المستهدف فعلاً؟
رغم أن الخطاب الأميركي الرسمي يُقدَّم تحت عنوان “مكافحة تمويل الإرهاب”، فإن جوهر الاستراتيجية الأميركية في لبنان يتمحور حول خنق المنظومة المالية لحزب الله وشبكات ارتباطه التجارية واللوجستية، باعتبارها أحد أهم أذرع النفوذ الإيراني في المشرق. فواشنطن تنظر إلى لبنان بوصفه الحلقة الأضعف والأكثر قابلية للاختراق ضمن محور التمويل الممتد من طهران إلى بيروت مرورًا ببغداد ودمشق، وبالتالي فإن السيطرة على بوابة المال في بيروت تعني عمليًا ضرب العمود الفقري للتمويل الإيراني الإقليمي.
في هذا السياق، تُدار الحملة الأميركية وفق استراتيجية “الضغط متعدد الطبقات”، تبدأ من أدوات مالية وتقنية وتنتهي بأدوات سياسية وأمنية. أبرز هذه الأدوات تشمل:
فرض عقوبات انتقائية على الصرافين والتجار والمستوردين الذين يُشتبه بتعاملهم مع حزب الله أو تسهيلهم عمليات نقل الأموال نقدًا بين لبنان وسوريا.
الضغط على المصارف اللبنانية لتجميد الحسابات المشبوهة، سواء كانت باسم أفراد أو شركات واجهة، عبر تهديدها بفقدان علاقتها مع النظام المصرفي الأميركي.
توسيع رقعة الرقابة على التحويلات الخارجية، خصوصًا القادمة من أفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث تمتلك الجالية اللبنانية حضورًا ماليًا كثيفًا يُعتقد أن جزءًا منه يُستخدم لدعم الحزب.
تقييد حركة النقد داخل السوق المحلي من خلال فرض قيود على الصرافين وشركات التحويل ومحال الذهب والمجوهرات، وهي قطاعات تُعتبر قنوات رئيسية لتدوير السيولة خارج النظام المصرفي الرسمي.
لكن هذه المقاربة الأميركية، التي تُسوّق على أنها جزء من “المعركة ضد الإرهاب”، تُفاقم فعليًا الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان. فحين تُعاقب واشنطن المصارف والصرافين، فإنها لا تُصيب حزب الله وحده، بل تشلّ الدورة النقدية كلها وتُضعف قدرة المواطنين والمؤسسات على التعامل بالدولار، وهو ما ينعكس ارتفاعًا في الأسعار وانهيارًا إضافيًا في الثقة بالقطاع المالي.
ويرى عدد من المحللين اللبنانيين أن واشنطن تمارس نوعًا من العقاب الجماعي الاقتصادي المقنّع، تحت غطاء مكافحة الإرهاب، إذ تُلقي تبعات المواجهة مع حزب الله على المجتمع اللبناني بأسره. ويقول أحد الخبراء الماليين في بيروت: “ما يجري ليس فقط خنق حزب الله، بل خنق البلد معه... الأميركيون يعرفون أن الحزب لن يتأثر إلا جزئيًا، أما الاقتصاد اللبناني فسينزف حتى آخر دولار.”
بهذا المعنى، يتجاوز الاستهداف بعده الأمني المباشر ليصبح استهدافًا بنيويًا لبنية الاقتصاد اللبناني، حيث تُستخدم أدوات المال كسلاحٍ صامت لإعادة رسم موازين القوة داخل لبنان، وتحديد مستقبل العلاقة بين بيروت وطهران من بوابة الدولار.
الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية
لا يمكن فصل الأبعاد المالية للضغوط الأميركية عن تداعياتها الاجتماعية المباشرة، فلبنان يعيش اليوم على هامش اقتصاد نقدي هشّ يقوم على التحويلات الصغيرة والشراء اليومي، وأي تدخل خارجي في هذا المسار يُحدث صدمة فورية في حياة الناس. الإجراءات التي تُسوّقها واشنطن تحت شعار “مكافحة تمويل الإرهاب” تُترجم على الأرض إلى انكماش حاد في الدورة النقدية، خصوصًا في المناطق المهمّشة والشمالية والبقاعية التي تعتمد بالكامل تقريبًا على الكاش لتأمين الغذاء والدواء والخدمات الأساسية.
معظم اللبنانيين فقدوا الثقة بالمصارف منذ الانهيار المالي عام 2019، ما دفعهم إلى التعامل نقدًا بالدولار أو الليرة. واليوم، حين تُفرض قيود أميركية على الصرافين وشبكات التحويل، فإن النتيجة الطبيعية هي تجفيف شرايين الاقتصاد الشعبي: تتراجع السيولة، تتوقف حركة البيع والشراء، وترتفع الأسعار بشكل جنوني.
الأخطر أن التحويلات الخارجية –التي تشكّل شريان الحياة لمئات آلاف العائلات اللبنانية– أصبحت تحت مجهر الرقابة. فكل حوالة تُرسل من الخارج تمرّ اليوم عبر فلترة أمنية ومصرفية دقيقة، ما يؤدي إلى تباطؤ وصول الأموال وارتفاع كلفة التحويلات، وأحيانًا تجميدها مؤقتًا للاشتباه بمصدرها. هذه التحويلات التي كانت تمثل ما بين 6 و8 مليارات دولار سنويًا أصبحت اليوم رهينة القرار الأميركي، ما يعني أن أكثر من نصف الأسر اللبنانية قد تفقد مصدر دخلها الأساسي.
في الأسواق، يظهر الأثر بسرعة: ارتفاع في أسعار السلع المستوردة، نقص في الأدوية، وتراجع في توفر المحروقات، لأن التجار باتوا عاجزين عن تحويل الأموال لتغطية مستورداتهم. وهكذا، تتدحرج الأزمة الاقتصادية إلى أزمة اجتماعية ومعيشية مفتوحة، حيث يتحول الدولار إلى أداة ضغط سياسية، ويصبح المواطن الحلقة الأضعف في معركة لا تخصه مباشرة.
يقول أحد الناشطين المدنيين من طرابلس في وصف دقيق للمشهد: “كلما شدّ الأميركي الخناق على حزب الله، نحن ندفع الثمن... الدولار يرتفع، المواد تختفي، والمصارف تغلق أبوابها. لا أحد يواجه العقوبات سوى الناس العاديين.”
بهذه الصورة، يبدو أن “الحرب المالية الأميركية” في لبنان تتجاوز كونها حملة ضد حزبٍ سياسي أو شبكة تمويل، لتتحول إلى حرب اجتماعية صامتة تمسّ حياة المواطنين اليومية وتعيد تشكيل المجتمع اللبناني اقتصاديًا من الأسفل إلى الأعلى.
ما الذي تريده واشنطن؟
لم تعد أهداف واشنطن في لبنان خافية. فالخطوط العريضة لخطة الخزانة الأميركية، كما ترد في الوثائق الرسمية وتصريحات كبار المسؤولين، تُظهر أن ما يجري يتجاوز بكثير فكرة “مكافحة تمويل الإرهاب” أو “تعزيز الشفافية”. نحن أمام استراتيجية متكاملة لإعادة رسم الخريطة المالية والسياسية للبنان، وجعله نموذجًا لتطبيق ما بات يُعرف في الأوساط الأكاديمية الأميركية باسم “الهيمنة عبر الدولار” (Dollar Dominance Strategy).
1. عزل حزب الله ماليًا بالكامل عن النظام المصرفي العالمي
الهدف الأول والمباشر هو قطع كل قنوات التمويل التي تصل إلى حزب الله، سواء عبر المصارف اللبنانية أو شبكات الصرافة أو التحويلات الفردية. فالحزب، بحسب واشنطن، نجح خلال السنوات الماضية في بناء منظومة مالية موازية تفوق قدرة العقوبات التقليدية على اختراقها. لذلك، تسعى الخزانة الآن إلى تفكيك هذه المنظومة من الداخل، عبر الضغط على مؤسسات لبنانية لتصبح جزءًا من منظومة الرقابة الأميركية، بما يشبه العزل المالي الذكي لا المجابهة الصريحة.
2. منع إيران من استخدام لبنان كممرّ نقدي بديل للعقوبات
منذ إعادة فرض العقوبات على طهران، أصبحت بيروت إحدى نقاط العبور النقدي الأساسية للأموال الإيرانية. واشنطن تعتبر أن لبنان تحوّل إلى “المتنفس المالي” لطهران، ومن هنا جاءت فكرة “الرقابة الذكية” التي تسمح بتتبع حركة الدولار حتى خارج النظام المصرفي الرسمي. أي خطوة لتجفيف هذا الممر تعني بالضرورة تضييق الخناق على الاقتصاد الإيراني نفسه.
3. فرض نموذج رقابة أميركي دائم على النظام المالي اللبناني
بموجب الخطط المطروحة، لن تكون الرقابة مجرد مرحلة مؤقتة، بل نظامًا مؤسسًا داخل البنية المالية اللبنانية، من خلال مكاتب تنسيق، وبرامج تبادل معلومات، وربط مباشر مع شبكات الرقابة الأميركية مثل “FinCEN” و“OFAC”. بهذا الشكل، تصبح الخزانة الأميركية شريكًا فعليًا في صناعة القرار المالي اللبناني، وتتحول السيادة النقدية إلى مجرد واجهة شكلية.
4. إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة عبر أدوات مالية لا عسكرية
تسعى واشنطن إلى تعميم النموذج اللبناني على باقي الساحات المتصلة بإيران، من العراق إلى سوريا واليمن. أي إن لبنان يشكّل مختبرًا ميدانيًا لسياسة أميركية جديدة تقوم على محاصرة الخصوم ماليًا بدلًا من خوض الحروب المباشرة. فالعقوبات الذكية والتجفيف المالي يُفترضان أن يكونا بديلًا عن القوة العسكرية المكلفة وغير المضمونة النتائج.
5. تأمين مصالح إسرائيل الأمنية على حدودها الشمالية
في البعد الاستراتيجي الأوسع، تخدم هذه السياسة المصالح الإسرائيلية بشكل مباشر. إذ ترى واشنطن أن تفكيك البنية المالية لحزب الله يوازي في أهميته تدمير قدراته العسكرية. فكل دولار يُمنع من الوصول إلى الحزب يعني –في الحساب الأميركي– صاروخًا أقل في المخزون، وشبكة أقل نفوذًا في الجنوب اللبناني. وبالتالي، الاستقرار المالي في لبنان وفق الرؤية الأميركية هو غطاء أمني لإسرائيل.
بهذا المعنى، لا تسعى واشنطن إلى “إنقاذ” لبنان بقدر ما تستخدمه كساحة اختبار لاستراتيجية الهيمنة عبر الدولار، حيث تتحول العملة الأميركية إلى أداة ضبط ونفوذ سياسي، تُدار بها الملفات من بيروت إلى طهران، ومن تل أبيب إلى دمشق.
إنها مرحلة جديدة في الصراع، لا تُخاض فيها المعارك بالسلاح، بل بالأرقام، بالتحويلات، وبسطوة الدولار.
كيف تردّ بيروت؟
تبدو بيروت اليوم وكأنها تسير على حبلٍ مشدود بين الامتثال والانفجار. فالحكومة اللبنانية، التي تواجه انهيارًا اقتصاديًا هو الأسوأ في تاريخها الحديث، تجد نفسها أمام معادلة قاسية: إمّا الرضوخ الكامل للضغوط الأميركية، مع ما يعنيه ذلك من فقدان شبه كامل للسيادة المالية، أو الدخول في مواجهة محدودة مع واشنطن، بما قد يعرّض البلاد لموجة جديدة من العقوبات والعزلة الدولية.
حتى اللحظة، تحاول الحكومة اتباع سياسة “التوازن الحذر”، أي تقديم الحد الأدنى المطلوب لإرضاء الخزانة الأميركية دون الانجرار إلى وصاية مالية مباشرة.
فقد أقرّ البرلمان اللبناني في الأشهر الماضية حزمة من القوانين الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وأعادت وحدة الإشراف في مصرف لبنان تفعيل آليات رقابة كانت شبه مجمّدة منذ 2020، كما تم تجميد عشرات الحسابات المشبوهة بطلبٍ غير معلن من الجانب الأميركي.
لكن، ورغم هذه الخطوات، لا تبدو واشنطن راضية. فالمسؤولون الأميركيون، وفي مقدّمتهم جون ك. هيرلي، يتحدثون عن “تعاون جيد في الشكل، محدود في المضمون”.
الخزانة تريد تقارير أسبوعية مفصّلة عن حركة الأموال بالدولار، وأسماء الصرافين، ومسارات التحويلات القادمة من الخارج، إضافة إلى فتح قاعدة بيانات مالية مشتركة مع الجانب الأميركي. هذه المطالب تُعتبر –بحسب مسؤول مصرفي لبناني– “خطًا أحمر يمسّ جوهر السيادة النقدية للبلد”.
ورغم التوجس الرسمي، فإن الانقسام داخل مؤسسات الدولة اللبنانية واضح. فهناك جناح في الحكومة يرى أن التعاون مع واشنطن هو السبيل الوحيد لتجنّب الانهيار الكامل واستعادة ثقة المانحين وصندوق النقد، بينما يتمسك جناح آخر، قريب من “محور المقاومة”، برفض أي إشراف خارجي، معتبرًا أن “الرقابة الأميركية ليست إصلاحًا بل استعمارًا ماليًا جديدًا”.
في الكواليس، تدور مفاوضات دقيقة بين وزارة المالية ومصرف لبنان والسفارة الأميركية حول صيغة “تعاون تقني” لا تُظهر بيروت وكأنها خاضعة لرقابة مباشرة. لكنّ الجانب الأميركي –وفق مصادر مطّلعة– يرفض الصيغ الرمزية ويصرّ على أن “المسألة لم تعد تقنية، بل استراتيجية”.
وهكذا، يجد لبنان نفسه في موقف لا يُحسد عليه:
إن تجاوب فقد سيادته المالية، وإن تمرد خسر آخر ما تبقّى له من علاقاته المالية الدولية.
بين ضغط الدولار وهاجس الانهيار، تبقى ردود بيروت محكومة بمنطق البقاء لا بالاختيار.
لبنان في قلب حرب مالية بين واشنطن وطهران
زيارة الوفد الأميركي إلى بيروت لا يمكن فهمها بمعزل عن التصعيد المالي الأوسع ضد إيران الذي شهدته المنطقة منذ منتصف 2025. فقد حددت واشنطن، في إطار حملة الضغط المالي القصوى، ما يُعرف بـ “مثلث التحويل الإيراني”، الذي يضم العراق وسوريا ولبنان، باعتباره محورًا رئيسيًا لتدفق الأموال خارج النظام المصرفي العالمي. ضمن هذا الإطار، أصبح لبنان، بحكم نظامه المالي المنفتح تاريخيًا وسهولة حركة النقد فيه، الحلقة الأضعف والأكثر عرضة للاختراق والمراقبة الأميركية.
الاستراتيجية الأميركية تعتمد على مبدأ الضغط المزدوج: استهداف الشبكات المالية المرتبطة بإيران وحزب الله، وفي الوقت نفسه، فرض رقابة شاملة على التحويلات النقدية والتجارية، بما يشمل الحسابات المصرفية والتحويلات عبر الصرافين. هذا الضغط، الذي يترافق مع وجود مكاتب ميدانية وبرامج تبادل معلومات مالية، يجعل من لبنان ساحة اختبار لنموذج الرقابة المالية الأميركية الإقليمية.
على الجهة المقابلة، تحاول طهران استغلال ثغرات السوق اللبناني عبر شبكات تجارية وشركات صرافة في الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان، تسعى إلى إيجاد مسارات بديلة لتحويل الأموال، سواء لدعم حلفائها أو لتمويل أنشطة إقليمية مرتبطة بها. كل محاولة لإيجاد طرق بديلة تُواجه بردّ أميركي سريع، يشمل تجميد حسابات، مراقبة الحوالات، وفرض قيود إضافية على الصرافين والتجار.
ما يميز هذا الصراع عن الحروب التقليدية هو غياب الجبهات العسكرية الواضحة، فهو صراع مالي–اقتصادي بامتياز، لكنه يترك أثرًا مباشرًا وملموسًا في حياة المواطنين. فكل دولار يُمنع من الوصول إلى لبنان، وكل تحويل يُجمّد، وكل صراف يُقيّد، يعني ارتفاع الأسعار، نقص السلع الأساسية، وتفاقم الأزمة المعيشية. في هذه الحرب، يصبح المواطن اللبناني، سواء في بيروت أو طرابلس أو البقاع، الحقل التجريبي الذي تُختبر عليه أدوات النفوذ المالي الأميركي والإيراني، فيما يظل لبنان في قلب صراع إقليمي بلا جبهات، لكنه مؤثر بشدة على حياته اليومية.
باختصار، لبنان اليوم ليس ساحة عبور للأموال فقط، بل محور تصادم استراتيجي بين قوتين إقليميتين، تُدار فيه الحرب عبر الدولار، التحويلات المصرفية، والشبكات التجارية، بدل الرصاص والصواريخ، لكن تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية أشد وقعًا على السكان العاديين.
إلى أين يتجه لبنان؟
يبقى مستقبل لبنان المالي والسياسي مرهونًا بالخيارات التي تتخذها الحكومة تجاه الضغط الأميركي المتزايد، وتُختصر السيناريوهات المحتملة في ثلاث مسارات رئيسية:
السيناريو الأول: “التكيّف الهادئ”
في هذا الخيار، تقرر بيروت التعاون التدريجي مع وزارة الخزانة الأميركية، وتقديم تنازلات مالية وتشريعية مقابل الحصول على دعم مالي مشروط من المؤسسات الدولية. النتيجة المحتملة هي استقرار نسبي للنظام المالي، مع الحفاظ على حدّ أدنى من دورة النقد، إلا أن هذا الاستقرار يأتي على حساب السيادة الوطنية والسيطرة على القرار المالي، حيث يصبح لبنان تابعًا فعليًا لمعايير الرقابة الأميركية في كل تحركاته النقدية.
السيناريو الثاني: “التصعيد”
يختار لبنان رفض أي وصاية مالية خارجية، سواء بشكل مباشر أو ضمن حزم الإصلاح. في هذه الحالة، من المتوقع أن تردّ واشنطن بعقوبات موسعة تستهدف شخصيات مصرفية وسياسية، وربما شركات مرتبطة بالشأن المالي اللبناني. هذه المواجهة قد تؤدي إلى مزيد من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، إذ تتعطل التحويلات النقدية، وترتفع أسعار السلع، وتزداد معاناة المواطنين في كافة المناطق اللبنانية.
السيناريو الثالث: “التحايل”
يعتمد هذا المسار على سياسة المراوغة: تنفيذ شكلي للإصلاحات المطلوبة لإرضاء الخزانة الأميركية، مع الإبقاء على قنوات خلفية غير رسمية للحفاظ على بعض السيولة ومرونة الحركة النقدية داخل السوق المحلي. هذا السيناريو قد يطيل عمر الأزمة ويقلّل من الضغوط المباشرة، لكنه لا يقدم حلاً جذريًا للمشاكل الهيكلية في الاقتصاد اللبناني، ويترك الدولة في حالة من القلق المستمر والمراقبة الخارجية المكثفة.
التداعيات على المدى البعيد
تآكل السيادة المالية: يصبح مصرف لبنان عمليًا تحت مراقبة دائمة من قبل جهات خارجية، مع تدقيق مستمر لكل تحويل ونشاط نقدي.
تزايد الانقسام الداخلي: يظهر صراع واضح بين من يرى في واشنطن شريكًا للإصلاح، ومن يعتبرها أداة استعمار اقتصادي تستهدف قرار لبنان المستقل.
تحوّل بنية الاقتصاد اللبناني: من نموذج يعتمد على المصارف والخدمات إلى اقتصاد مراقب ومحدود السيولة، حيث يصبح النقد تحت الرقابة المباشرة، وتقل قدرة السوق على الحركة بحرية.
إعادة رسم التوازنات الإقليمية: كل ضعف مالي يصيب حزب الله ينعكس مباشرة على النفوذ الإيراني في سوريا واليمن والعراق، مما يجعل لبنان ميدان اختبار للتوازنات الإقليمية والسيطرة المالية غير المباشرة.
في المحصلة، يبدو أن لبنان مقبل على مرحلة جديدة من الإدارة المالية تحت رقابة خارجية صارمة، حيث تتشابك السياسة بالاقتصاد والأمن بالنقد، وتصبح الخيارات المتاحة محدودة، ما بين التكيف، المواجهة، أو المراوغة، وكل خيار يحمل تبعاته العميقة على الدولة والمجتمع.
ما بعد الزيارة — ملامح مرحلة جديدة
منذ مغادرة الوفد الأميركي، بدأت الحكومة اللبنانية تنفيذ خطوات متسارعة تبدو في ظاهرها إصلاحية، لكنها في جوهرها تعكس نفوذًا أميركيًا متزايدًا على النظام المالي اللبناني. فمع عودة المسؤولين اللبنانيين إلى المكاتب، شرعت وزارة المالية ومصرف لبنان في تفعيل وحدة الإشراف على الصرافين، التي باتت مرتبطة مباشرة بمتطلبات الخزانة الأميركية، وذلك لضمان تتبع الحوالات والتحويلات النقدية بالدولار بشكل دقيق، وتقليص التداول النقدي غير الرسمي.
في الوقت نفسه، أطلقت الحكومة منصة مراقبة إلكترونية متقدمة للحوالات، تهدف إلى رصد كل عملية تحويل مالية، من التحويلات الفردية إلى التحويلات التجارية، وربطها بالرقابة الداخلية والخارجية في آن واحد. هذا النظام الجديد، وفق مسؤولين مصرفيين، يُمكّن واشنطن من الحصول على تقارير لحظية عن حركة الأموال داخل لبنان، ما يجعل الرقابة الأميركية أكثر فعالية من أي وقت مضى.
كما بدأت الحكومة تحضير قانون جديد لتقييد حركة النقد في السوق المحلية، والذي يفرض حدودًا على التحويلات النقدية ويضع آليات لتسجيل جميع معاملات الصرافين والمصارف غير الرسمية. القانون، إذا أقرّ، سيشكل تحوّلًا جذريًا في السياسات النقدية التقليدية للبنان، حيث يصبح كل دولار داخل الاقتصاد المحلي تحت مجهر المراقبة القانونية والفنية.
لكن وراء هذه الإجراءات الإصلاحية يبرز وجه واشنطن في كل تفصيل: من تصميم المنصات الرقمية إلى تحديد أولويات الرقابة، وصولًا إلى صياغة التشريعات، مما يجعل لبنان اليوم مختبرًا لتجربة الرقابة المالية الذكية. الهدف الأميركي واضح: اختبار نموذج يسمح للولايات المتحدة بفرض سيطرتها المالية على بلد متأزم اقتصاديًا، قبل أن يُطبَّق لاحقًا على دول أخرى تواجه أزمات مشابهة، سواء في المنطقة أو خارجها.
بهذه الخطوات، يبدأ لبنان مرحلة جديدة من الرقابة والإدارة المالية المباشرة من الخارج، حيث تتداخل السياسة بالاقتصاد والأمن بالنقد، ويصبح المواطن اللبناني محكومًا بآليات مالية لم يعد هو صانعها، بل مجرد متلقي لتداعياتها اليومية، من ارتفاع الأسعار إلى محدودية السيولة، في ظل مرحلة لا تقل حساسية عن الحروب التقليدية، لكنها تُخاض هذه المرة بالأرقام والتحويلات والقوانين.
لبنان بين المطرقة الأميركية وسندان الانهيار
زيارة وفد وزارة الخزانة الأميركية بقيادة جون ك. هيرلي إلى لبنان ليست مجرد حدث عابر على أجندة السياسة الدولية، بل نقطة مفصلية في مسار طويل من الضغوط الأميركية على النظام المالي والأمني اللبناني. ما كان يُنظر إليه سابقًا على أنه أزمة مالية محلية تحوّل اليوم إلى اختبار دقيق لسيادة الدولة اللبنانية واستقلال قراراتها الاقتصادية والأمنية.
الرسائل التي حملها الوفد واضحة: لبنان لم يعد مجرد متلقٍ للمساعدات أو إصلاحات اقتصادية، بل أصبح جزءًا من خطة استراتيجية أميركية أكبر لمكافحة نفوذ إيران في المنطقة. الأدوات التي استخدمها الوفد – بدءًا من مراقبة الصرافين وإطلاق مكتب ميداني داخل مصرف لبنان، وصولًا إلى مراقبة الحدود مع سوريا – تشير إلى أن الولايات المتحدة اختارت التحكم المباشر في تدفقات النقد والأموال اللبنانية كأساس للضغط السياسي والأمني، وهو تحول جوهري في طبيعة العلاقة بين لبنان والقوى الكبرى.
الجانب الداخلي اللبناني يواجه مأزقًا مزدوجًا: على الصعيد الرسمي، هناك رغبة في التعاون لتجنب العقوبات والحفاظ على خطوط التمويل الدولية، بينما على الصعيد الشعبي، يشعر المواطنون بأن حياتهم اليومية أصبحت مرهونة بمصالح القوى الإقليمية والدولية. أي خطوة في سوق النقد، أي قرار متعلق بالصرافين أو بالتحويلات، ينعكس مباشرة على قدرة اللبنانيين على شراء الطعام والدواء وتأمين حاجاتهم الأساسية.
من الناحية الاقتصادية، يطرح تدخل الخزانة الأميركية أسئلة جوهرية حول مستقبل الاقتصاد النقدي اللبناني وسوق الصرافة غير الرسمي. كلما تم تشديد الرقابة، كلما ازداد الضغط على الطبقة المتوسطة والفقيرة، ما قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وتفاقم الأزمة الإنسانية. على الجانب المالي الرسمي، سيصبح لبنان مُلزَمًا بتطبيق معايير الرقابة الأميركية بدقة، مع تقارير أسبوعية وربما تدخل مباشر في آليات السياسة النقدية، وهو ما يمثل **تقييدًا غير مسبوق لسيادة الدولة**.
أما على الصعيد السياسي، فإن الرسائل الأميركية تحمل أكثر من بعد واحد. فهي تحذير للطبقة السياسية اللبنانية من أي تعامل مع إيران أو مع فاعلين يعتبرهم الغرب “جماعات غير دولة”، وفي الوقت ذاته، تعزيز لموقع واشنطن كلاعب مركزي في لبنان والمنطقة. لبنان اليوم في قلب صراع إقليمي متشابك: بين الضغط المالي الأميركي، النفوذ الإيراني، الأمن الإسرائيلي، والاستقرار الداخلي الهش.
السيناريوهات المستقبلية متعددة، وكلها محفوفة بالمخاطر. التكيّف الهادئ مع واشنطن قد يمنح لبنان دعمًا ماليًا، لكنه على حساب السيادة الوطنية؛ رفض الضغوط الأميركية قد يقود إلى **عقوبات واسعة وأزمة مالية أشد؛ أما المراوغة أو التنفيذ الجزئي للإصلاحات، فقد يطيل الأزمة بلا حلّ حقيقي، ويزيد من انعدام الثقة بين المواطنين والدولة.
الزيارة لم تكن مجرد خطوة دبلوماسية، بل إعلان بداية مرحلة جديدة في تاريخ لبنان الحديث، حيث أصبح “التحكم المالي–الأمني الدولي” جزءًا من الواقع اليومي. هذه المرحلة تحمل في طياتها اختبارًا لمؤسسات الدولة، وضغطًا على الاقتصاد، وانعكاسات على الأمن الاجتماعي والسياسي. لبنان أصبح اليوم مختبرًا لاستراتيجية أميركية تستخدم المال كأداة للهيمنة الإقليمية، وهو ما قد يشكل نموذجًا يتم تطبيقه لاحقًا في دول أخرى تواجه أزمات مالية وسياسية.
في النهاية، السؤال الأكبر الذي يواجه لبنان اليوم ليس عن حجم المساعدات أو إصلاحات مصرفية، بل عن قدرة الدولة والمجتمع على الحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية في مواجهة التدخلات الكبرى، وعن مدى قدرة اللبنانيين على حماية حياتهم اليومية وحقوقهم الأساسية وسط صراع القوى الإقليمية والدولية. زيارة هيرلي وفريقه تضع لبنان أمام مفترق طرق تاريخي: إما قبول رقابة خارجية صارمة مقابل البقاء على قيد التمويل الدولي، أو مقاومة قد تحمل مخاطر انهيار أوسع، مع استمرار دورة الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية التي لم يعد بالإمكان تجاهلها.