زيارة تاريخية: سوريا تواجه المستقبل على طاولة البيت الأبيض

2025.11.10 - 01:07
Facebook Share
طباعة

اليوم يشهد العالم حدثًا تاريخيًا غير مسبوق في العلاقات الدولية، إذ يزور رئيس سوري البيت الأبيض لأول مرة منذ تأسيس الولايات المتحدة. هذه الزيارة تتجاوز مجرد اللقاء الدبلوماسي التقليدي، لتصبح لحظة رمزية تحمل في طياتها إشارات استراتيجية وسياسية هامة، ليس فقط لسوريا، بل للشرق الأوسط بأسره.

الزيارة تأتي في وقت حرج، تتقاطع فيه مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا مع تعقيدات الأزمة السورية، حيث تتشابك الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية على نحو غير مسبوق. على طاولة البحث تنتظر قضايا حساسة وحاسمة تشمل: الاحتلال الإسرائيلي للجنوب السوري، مستقبل الحكم في مناطق شمال شرق سوريا، معسكرات عناصر تنظيم الدولة، والتحول الاقتصادي الداخلي نحو النيوليبرالية، الذي يصاحبه تشديد القبضة الأمنية والآثار الإنسانية الوخيمة.

ما يجعل هذه الزيارة أكثر أهمية هو رمزيتها السياسية، إذ تعكس محاولة سوريا تعزيز سيادتها واستعادة دورها الإقليمي، بعد سنوات من الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية. كما تحمل الزيارة رسائل مزدوجة إلى القوى الكبرى: للولايات المتحدة لإعادة النظر في سياساتها تجاه دمشق، ولإسرائيل وتركيا لتحديد سقف مصالحهم في المنطقة.

هذه الخطوة التاريخية تشكل مؤشرًا حقيقيًا على إعادة ترتيب نفوذ القوى الكبرى في الشرق الأوسط، وتعد نقطة تحول محتملة في مسار السياسة الإقليمية السورية، حيث يُتوقع أن يكون لها تأثير مباشر على ملفات لبنان، العراق، وفصائل المعارضة، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأمريكية في سوريا والمنطقة.

 


ملفات شائكة على الطاولة

زيارة الرئيس السوري إلى البيت الأبيض تأتي وسط ملفات استراتيجية شديدة الحساسية، تتعلق بمستقبل سوريا وأمنها الإقليمي، وتحديات سيادتها في مواجهة قوى إقليمية ودولية تسعى لإعادة رسم خرائط النفوذ. هذه الملفات لا تقتصر على قضايا ثنائية بين دمشق وواشنطن، بل تشمل شبكة معقدة من المصالح الإسرائيلية والتركية، بالإضافة إلى القوى الكردية المحلية، وتهديدات التنظيمات الإرهابية التي ما تزال تشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار البلاد.


---

الاحتلال الإسرائيلي جنوب سوريا

يظل الاحتلال الإسرائيلي للجنوب السوري أبرز الملفات الشائكة، إذ تواجه تل أبيب اليوم مطالب سورية مباشرة بالانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، والتخلي عن أي مشاريع توسعية، خصوصًا في محافظة السويداء الجنوبية. إسرائيل منذ نشأتها اعتمدت على سياسة التقسيم وإضعاف الدولة السورية كركيزة استراتيجية، ويظهر ذلك بوضوح في محاولاتها المستمرة لإبقاء شمال شرق سوريا تحت حكم الأكراد، ما يمهد لإنشاء كيانات مستقلة أو شبه مستقلة في المستقبل.

في المقابل، يسعى الرئيس السوري لتعزيز سيادة الدولة على كامل أراضيها، وفرض نفوذها على المناطق الجنوبية، وهو ما يمثل تحديًا مباشرًا لإسرائيل، التي تعتبر التوسع السوري عائقًا أمام مخططاتها. هذا الصراع على الجنوب ليس مجرد نزاع إقليمي، بل يحمل تبعات استراتيجية واسعة تشمل التوازن العسكري، الأمن الحدودي، وملفات الطاقة والنفوذ الاقتصادي في المناطق المتنازع عليها.


---

الأكراد ومعسكرات تنظيم الدولة

الملف الكردي يمثل أحد أكثر الملفات تعقيدًا، إذ تتقاطع فيه مصالح واشنطن ودمشق وأنقرة. تسعى الإدارة الأمريكية إلى الحفاظ على نفوذها في شمال شرق سوريا عبر القوات الكردية، باعتبارها أداة أساسية للحفاظ على وجودها الاستراتيجي في المنطقة، وتقييد قدرة دمشق على السيطرة الكاملة.

في المقابل، يسعى الرئيس السوري إلى تسلم معسكرات عناصر تنظيم الدولة وإعادة فرض السيطرة الكاملة على هذه المناطق، بما يعزز سيادة الدولة ويقطع الطريق أمام أي كيانات مستقلة محتملة. هذا التوجه يحظى بدعم الرئيس التركي أردوغان، الذي يسعى بدوره إلى تثبيت حدود نفوذ الدولة السورية وتجنب إقامة كيان كردي مستقل على الحدود التركية.

التعقيد الإقليمي يتضاعف بسبب تداخل هذه الملفات مع السياسات الأمنية، الهجمات الإرهابية المتكررة، وملفات اللاجئين والنزوح الداخلي، ما يجعل الحوار حول الأكراد ومعسكرات التنظيم أكثر من مجرد موضوع دبلوماسي، بل مسألة حاسمة لتحديد مسار الأمن والاستقرار في سوريا والمنطقة بأكملها.

 

 


تباينات استراتيجية

كما زيارة الشرع في سياق شبكة معقدة من المصالح المتضاربة بين القوى الإقليمية والدولية، ما يجعل أي تفاوض يتسم بالدقة والحذر، ويعكس عمق التحديات التي تواجه سوريا في استعادة سيادتها.

إسرائيل: سعي دائم لتقسيم سوريا

إسرائيل منذ تأسيسها اتبعت سياسة استراتيجية تقوم على إضعاف الدولة السورية وتقسيمها، وهو ما تجلى بوضوح في محاولات فصل محافظة السويداء منذ عام 2024. تل أبيب تسعى إلى استمرار حالة الانقسام داخل سوريا، خصوصًا في شمال شرق البلاد، حيث يتم دعم الأكراد بهدف إقامة كيانات مستقلة أو شبه مستقلة. هذه الرؤية الإسرائيلية تهدف إلى ضمان نفوذ طويل المدى وتقليص قدرة دمشق على التحكم الكامل في أراضيها، كما توفر لإسرائيل ورقة ضغط إقليمية مهمة في أي مفاوضات مستقبلية حول الأمن والموارد في المنطقة.

تركيا: تعزيز سيادة الدولة السورية على الحدود

على العكس، تتبنى تركيا موقفًا يدعم فرض الدولة السورية ككيان موحد، مع التركيز على تقليص النفوذ الكردي على الحدود التركية. أنقرة ترى في وجود كيانات كردية مستقلة خطرًا مباشرًا على أمنها القومي، لذا فهي تشارك دمشق في الضغط على الإدارة الأمريكية لإعادة ترتيب السيطرة على مناطق شمال شرق سوريا. هذا التعاون التركي–السوري، رغم أنه محدود في مجالات معينة، يمثل تهديدًا مباشرًا للمخططات الإسرائيلية ويعقد ديناميكيات التوازن الإقليمي.

الولايات المتحدة: موازنة النفوذ والمصالح الاقتصادية

الولايات المتحدة، من جانبها، تتعامل مع الملف السوري بمرونة موجهة نحو إعادة ترتيب مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة. واشنطن تسعى إلى تحقيق أقصى قدر من النفوذ والسيطرة دون الانخراط المباشر في النزاعات الداخلية، وقد يشمل ذلك التغاضي عن الانتهاكات الحقوقية والإنسانية التي تصاحب سياسات دمشق الداخلية، خصوصًا فيما يتعلق بالتحول الاقتصادي نحو النيوليبرالية والتشديد الأمني. هذا الموقف يعكس قدرة الولايات المتحدة على توظيف الملفات السورية لتحقيق أهدافها الإقليمية، بما في ذلك ضبط النفوذ الإيراني، وحماية مصالح حلفائها في إسرائيل وتركيا.

 

التحول الاقتصادي والقبضة الأمنية

يسعى الرئيس السوري إلى تحويل الاقتصاد الوطني بسرعة وفق نموذج النيوليبرالية المتسارعة، في محاولة لإعادة هيكلة البنية الاقتصادية بعد سنوات من الأزمة والصراع. هذا التوجه يظهر بوضوح في رفع أسعار الكهرباء وتحرير بعض القطاعات الاقتصادية، بالإضافة إلى محاولات ضخ استثمارات خاصة في مجالات الطاقة والموارد الطبيعية. الهدف المعلن هو تعزيز الإنتاجية الوطنية وجذب الاستثمارات الأجنبية، لكن الخطوات العملية تحمل آثارًا اجتماعية صعبة، إذ يواجه المواطنون السوريون زيادة كبيرة في تكلفة المعيشة، بينما تتوسع فجوة الفقر والبطالة.

ولتأمين تمرير هذه السياسات، يلجأ النظام إلى تشديد القبضة الأمنية بشكل كبير، بما يشمل تعزيز الرقابة على الأسواق، فرض قوانين صارمة على الاحتجاجات، وملاحقة أي معارضة اقتصادية أو سياسية. هذا المزيج بين النيوليبرالية الاقتصادية والسيطرة الأمنية يمثل تجربة نادرة في المنطقة، حيث يلتقي التحول الاقتصادي مع فرض النظام قوة كاملة على المجتمع لضمان الالتزام بالإصلاحات، مهما كانت تبعاتها الإنسانية.

أما على الصعيد الخارجي، فإن التحول الاقتصادي السوري يواجه موازنة دقيقة مع مصالح الولايات المتحدة والقوى الإقليمية، إذ قد تتغاضى واشنطن عن الانتهاكات الحقوقية، مقابل تحقيق مصالح استراتيجية مشتركة في سوريا. هذه الاستراتيجية تعكس فهمًا عميقًا للواقع الدولي، حيث القبضة الأمنية المحلية والتعاون الدولي المشروط يصبحان أداتين لضمان استمرار الدولة السورية في السيطرة على مواردها ونفوذها الإقليمي.

بالتالي، يشكل هذا الملف نقطة اشتباك حقيقية بين الحاجة إلى التنمية الاقتصادية والحد من التأثير الاجتماعي والسياسي للسياسات النيوليبرالية، ويعكس التحديات الكبيرة التي تواجهها سوريا في سعيها لتحقيق الاستقرار الداخلي والخارجي في آن واحد.


العلاقات التاريخية مع واشنطن: تعاون دائم بلا رضا أمريكي

 

النظام السوري السابق، بقيادة الأسد الأب ثم الابن، كان يُعرف بأنه من أكثر الأنظمة العربية تعاونًا مع الولايات المتحدة في تبادل المعلومات الاستخباراتية حول الحركات الإسلامية والجماعات المسلحة، خاصة خلال ما سُمّي بـ "الحرب على الإرهاب". المفكر نعوم تشومسكي وصف هذا النظام بأنه "مسخ علماني" يشارك واشنطن في عداء القوى المتأسلمة، ويعمل كأداة وظيفية لتحقيق مصالح استراتيجية أمريكية في المنطقة.

مع ذلك، فإن التعاون الأمني والاستخباراتي لم يمنح دمشق أي درجة رضا أو اعتراف دائم من البيت الأبيض، إذ كانت واشنطن دائمًا تضع مصالحها ومصالح إسرائيل في صدارة أولوياتها، مع رفض السماح بأي "تمرد ناجح" للنظام السوري على الهيمنة الأمريكية أو على الاستراتيجيات الإقليمية.

في هذا السياق، تأتي زيارة الرئيس الشرع للبيت الأبيض برمزيتها التاريخية الكبيرة، فهي ليست مجرد لقاء دبلوماسي تقليدي، بل تمثل محاولة سوريا لاستعادة موقعها كفاعل رئيسي على الساحة الإقليمية. تحمل الزيارة رسالة واضحة إلى القوى الكبرى: دمشق تسعى لتأكيد سيادتها، إعادة ترتيب نفوذها، وتثبيت حضورها السياسي والعسكري والاقتصادي، في مواجهة المخططات الإسرائيلية والأمريكية السابقة التي هدفت إلى تقليص قدراتها أو تقسيم أراضيها.

 


سوريا على مفترق النفوذ والاستقرار الإقليمي


زيارة الشرع للبيت الأبيض تمثل لحظة فاصلة في تاريخ السياسة السورية والإقليمية، إذ تحمل انعكاسات كبيرة على أكثر من صعيد:

استراتيجيات إسرائيلية تجاه لبنان والعراق: فالضغط السوري المتزايد على الحدود الجنوبية والشمالية يحد من حرية تحرك إسرائيل ويعيد تشكيل أولوياتها في المنطقة.

ترتيب المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأمريكية في سوريا: إذ أن واشنطن، من خلال هذه الزيارة، تسعى إلى إيجاد توازن بين النفوذ والتحكم في الموارد والحد من أي تحرك أحادي الجانب من دمشق.

المستقبل الداخلي السوري: فالملفات الاقتصادية، بما في ذلك التحول النيوليبرالي وتشديد الرقابة الأمنية، ستكون على رأس الأولويات، ما ينعكس بشكل مباشر على الأوضاع الإنسانية والسياسية والحقوقية داخل البلاد.


باختصار، تكشف هذه الخطوة التاريخية أن سوريا تسعى لاستعادة دورها كدولة موحدة ذات سيادة كاملة، قادرة على مواجهة محاولات التقسيم الإقليمي والسيطرة الخارجية، وأن المرحلة المقبلة ستشهد صراعًا محوريًا على الملفات الاقتصادية، الأمنية، والسياسية، مع إعادة رسم ملامح النفوذ الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط.

 

 


 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 9