في مشهد يختزل سنوات الاحتلال والاستيطان، تتصاعد أعمال العنف التي ينفذها مستوطنون إسرائيليون ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، بدعم وتغطية من قوات الجيش والشرطة الإسرائيلية، لتتحول هذه الاعتداءات من أعمال فردية إلى سلوك منظم تمارسه منظمات استيطانية ذات طابع أيديولوجي متطرف.
خلال موسم قطف الزيتون –الذي يمثل رمزاً للأرض والجذور في الوعي الفلسطيني– تتضاعف الهجمات التي ينفذها المستوطنون على القرى والمزارع، في مشهد بات يتكرر سنوياً، حيث يُمنع المزارعون من الوصول إلى أراضيهم، وتُحرق الأشجار والمنازل تحت أنظار الجنود.
“فتيان التلال”.. نواة التطرف المنظم
تُعد منظمة “فتيان التلال” (Hilltop Youth) أخطر هذه الجماعات وأكثرها انتشاراً. نشأت بعد الانتفاضة الثانية عام 2001، عندما قرر مجموعة من الشبان المتطرفين احتلال تلال تطل على القرى الفلسطينية وتحويلها إلى بؤر استيطانية غير قانونية، لتصبح لاحقاً نواة لمستوطنات دائمة تحظى بحماية رسمية.
وبمرور الوقت، تطورت “فتيان التلال” إلى شبكة عنف متكاملة تضم مئات الشبان، يتبنون أيديولوجيا قائمة على فكرة “السيطرة على الأرض بالقوة” وطرد الفلسطينيين منها. ومن رحمها وُلدت في عام 2005 جماعة “فتيات التلال”، التي تتبنى الفكر ذاته وتشارك في اقتحامات واعتداءات على المزارعين الفلسطينيين.
تقرير أممي صدر في نوفمبر الماضي أشار إلى أن شهر أكتوبر/تشرين الأول شهد 264 اعتداءً نفذها مستوطنون في الضفة الغربية، وهو الرقم الأعلى منذ نحو عقدين، ما يعكس تصاعداً غير مسبوق في مستوى العنف المنظم.
“جباية الثمن”.. بصمة الحقد على الجدران
في موازاة ذلك، تنشط جماعة “جباية الثمن” (Price Tag)، وهي تشكيل شبابي يشن هجمات على الفلسطينيين والعرب داخل الخط الأخضر أيضاً، مستهدفة السيارات والمنازل والمساجد والكنائس، مع ترك شعارات عنصرية وتوقيعات على الجدران تقول: “الموت للعرب”.
ورغم تصنيف هذه الجماعة إرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإن السلطات الإسرائيلية تتعامل معها بتساهل واضح، وغالباً ما تُغلق التحقيقات دون توجيه اتهامات.
“حارس يهودا والسامرة”.. التطوع بالعنف
عام 2013 تأسست منظمة “حارس يهودا والسامرة”، تحت شعار “حماية المستوطنات والمزارع اليهودية”. لكنها تحولت سريعاً إلى ذراع مدنية مسلحة تمارس العنف ضد الفلسطينيين تحت غطاء “الأمن الذاتي”.
وقد فرضت عليها بريطانيا عقوبات عام 2024 بعد تورط أعضائها في عمليات حرق وتدمير لممتلكات فلسطينية، فيما تصفها منظمات حقوقية إسرائيلية بأنها “ميليشيا مدنية بلباس رسمي”.
ألوية الدفاع الإقليمي.. عسكرة المستوطنين
بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أنشأ جيش الاحتلال ما يُعرف بـ**“ألوية الدفاع الإقليمي”**، لتجنيد نحو 5500 مستوطن في وحدات أمنية محلية تتولى “حماية” المستوطنات ومحيطها، لكنها عملياً تشارك في اقتحام القرى الفلسطينية القريبة.
وتشير تقارير ميدانية إلى أن هذه الألوية –التي تضم الآن أكثر من 7 آلاف شخص– تورطت في عمليات تدمير ممنهجة للممتلكات الزراعية الفلسطينية، إلى جانب تنفيذ تهديدات مباشرة بحق السكان، بهدف دفعهم إلى النزوح القسري.
عنف ممنهج وأهداف استراتيجية
يُجمع الخبراء على أن تصاعد عنف المستوطنين ليس مجرد رد فعل أو انفلات أمني، بل جزء من استراتيجية إسرائيلية أوسع تهدف إلى جعل الزراعة الفلسطينية غير مستدامة، وتفريغ الريف الفلسطيني من سكانه تمهيداً لضم مناطق أوسع من الضفة الغربية.
ويقول المحلل السياسي الفلسطيني جهاد حرب إن “المنظمات الاستيطانية باتت تمثل القوة الفعلية على الأرض، وغالباً ما تُملِي إيقاعها على الجيش والحكومة”. ويضيف أن “ما يجري هو عملية تهجير زاحف، تستخدم فيها إسرائيل المستوطنين كأداة تنفيذ ميدانية”.
احتلال بلا حدود
منذ احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية عام 1967، تواصل إسرائيل سياسة فرض الوقائع على الأرض، في خرق واضح للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن التي تعتبر جميع المستوطنات غير شرعية.
لكن التطور الأخطر اليوم هو تحول الاستيطان من مشروع سياسي إلى سلوك ميليشياوي، تتولاه منظمات عقائدية تمارس العنف جهاراً، في ظل صمت دولي وتواطؤ حكومي إسرائيلي.
خاتمة: الضفة في اختبار الصمود
في مواجهة هذه الهجمة المنظمة، يواصل الفلسطينيون التمسك بأرضهم رغم الخسائر. ومع كل موسم زيتون جديد، يخرج المزارعون إلى الحقول وهم يدركون أن الخطر يترصدهم في كل لحظة، لكنهم يصرّون على الحصاد، لأن التمسك بالأرض بات الفعل المقاوم الأخير في وجه الاستيطان.