زيارة على حافة التحول: الشرع في واشنطن

2025.11.09 - 08:13
Facebook Share
طباعة

 في مشهدٍ لم يكن أحد يتخيله قبل أعوام قليلة، حطّت طائرة الرئيس السوري أحمد الشرع في مطار واشنطن الدولي، إيذانًا ببدء زيارة تاريخية هي الأولى من نوعها لرئيس سوري إلى البيت الأبيض. الزيارة التي وصفتها وسائل الإعلام الأميركية بأنها “انعطافة سياسية جريئة”، تأتي في لحظة فارقة من تاريخ الشرق الأوسط، حيث تتقاطع فيها مصالح الأمن الإقليمي، ومشاريع إعادة رسم النفوذ في سوريا بعد عقدٍ من الحرب والانقسام.

زيارة غير عادية

الزيارة التي بدأت السبت، تأتي بدعوة رسمية من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بعد أسابيع من رفع العقوبات الأميركية والدولية عن الشرع، وهي الخطوة التي مهدت الطريق أمام هذا اللقاء الذي يراه مراقبون بأنه بداية مرحلة جديدة في العلاقة بين دمشق وواشنطن.

وبحسب ما أفادت وكالة الأنباء السورية (سانا)، فإن الشرع سيلتقي الرئيس ترامب في البيت الأبيض لمناقشة ملفات متعددة، أبرزها التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، إلى جانب مستقبل الوجود العسكري الأميركي في سوريا.

ويُذكر أن الشرع كان قد زار الولايات المتحدة للمرة الأولى قبل أيام، حين ألقى كلمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، إلا أن هذه هي الزيارة الأولى إلى العاصمة الأميركية في إطار ثنائي رسمي، وهي تحمل رمزية سياسية غير مسبوقة.

من قائد ميداني إلى رئيس ضيف على البيت الأبيض

الشرع، الذي عُرف سابقًا باسم “أبي محمد الجولاني”، كان حتى سنوات قليلة شخصية مصنفة على قوائم الإرهاب الدولية بصفته قائد “هيئة تحرير الشام”، التنظيم الذي نشأ من رحم فرع القاعدة في سوريا. لكن مسار التحول السياسي الذي قاده داخل البلاد بعد سقوط نظام بشار الأسد عام 2023، أوصله إلى قصر الرئاسة، فاتحًا مرحلة جديدة من الحكم في دمشق تتسم بقدر من البراغماتية والانفتاح على الغرب.

تحوّل صورة الشرع من “قائد عسكري سابق” إلى “رئيس دولة يتحدث في الأمم المتحدة” هو بحد ذاته حدث استثنائي في التاريخ السياسي السوري الحديث، وقد أثار نقاشات واسعة في الأوساط الإقليمية والدولية حول طبيعة النظام الجديد في دمشق وموقعه من خريطة التحالفات.

واشنطن تمد اليد

تزامنت زيارة الشرع مع إعلان المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم براك، عن نية واشنطن توقيع اتفاق مع دمشق لانضمامها رسميًا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ويُتوقع أن يكون هذا الاتفاق من أبرز ملفات القمة بين ترامب والشرع.

وفي خطوة متزامنة أثارت الجدل، كشفت تقارير لوكالات “رويترز” و“فرانس برس” أن الولايات المتحدة تعتزم إنشاء قاعدة عسكرية قرب دمشق في إطار تفاهمات أمنية جديدة، وهو ما نفته الحكومة السورية رسميًا.

مصدر في وزارة الخارجية السورية قال إن بلاده “ترحب بأي تعاون دولي لمكافحة الإرهاب ضمن إطار السيادة الوطنية”، لكنها “ترفض إقامة قواعد أو وجود عسكري أجنبي دائم على أراضيها”.

ملف إسرائيل واتفاق أمني قيد التفاوض

من القضايا الأكثر حساسية على جدول المباحثات، ملف المفاوضات المباشرة بين سوريا وإسرائيل، والذي يشهد حراكًا متسارعًا منذ منتصف العام.

وكان ترامب قد دعا في مايو/أيار الماضي الرئيس السوري للانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام”، التي دشنت مرحلة تطبيع جديدة بين دول عربية وإسرائيل منذ عام 2020. ورغم أن دمشق لم تعلن موقفًا صريحًا من المبادرة، فإن تصريحات الشرع في سبتمبر/أيلول الماضي كشفت عن ملامح توجه جديد، إذ تحدث عن مفاوضات تهدف إلى “التوصل لاتفاق أمني تنسحب بموجبه إسرائيل من مناطق في الجنوب السوري مقابل وقف الغارات المتكررة”.

ويرى محللون أن هذا الطرح يمثل مقاربة سورية براغماتية تتجاوز الشعارات التقليدية، وتستهدف تحييد الجنوب السوري عن الصراع الإسرائيلي الإيراني، بما يضمن استقرار الحدود ويفتح الباب أمام تسوية أوسع برعاية أميركية.

صفقة كبرى أم اختبار متبادل؟

تساؤلات كثيرة تدور في واشنطن ودمشق على السواء حول أهداف الزيارة ومداها السياسي. فبينما تصفها الإدارة الأميركية بأنها “اختبار نيات”، يرى مراقبون أنها قد تكون الخطوة الأولى نحو “صفقة كبرى” تشمل ملفات أمنية وسياسية واقتصادية تمتد من محاربة الإرهاب إلى إعادة الإعمار، وربما إعادة دمج سوريا تدريجيًا في النظام الدولي.

اللافت أن الشرع اختار زيارة واشنطن بعد عام واحد فقط من رفع اسمه من قوائم العقوبات الدولية، في إشارة إلى رغبته في “إعادة التموضع” خارج معسكر المحاور الإقليمية التقليدية. أما ترامب، الذي يواجه تحديات داخلية واقتصادية، فقد وجد في هذا اللقاء فرصة لإعادة إحياء صورته كـ"صانع صفقات الشرق الأوسط"، على غرار ما فعله مع الإمارات والبحرين قبل سنوات.

التحول في ميزان العلاقات

حتى الآن، لا توجد مؤشرات على تحالف استراتيجي ثابت بين دمشق وواشنطن، لكن الزيارة تحمل رمزية تتجاوز مضمونها الدبلوماسي. فهي أول اعتراف أميركي علني بالنظام السوري الجديد، وأول بادرة انفتاح من دمشق على واشنطن منذ عقود.

وفي المقابل، يُتوقع أن تراقب موسكو وطهران عن كثب تطورات الزيارة، وسط مخاوف من أن يؤدي التقارب السوري الأميركي إلى إعادة توزيع النفوذ في الميدان السوري، خاصة في ظل الحديث عن “تفاهمات أمنية قريبة من دمشق”.

زيارة تكتب فصلاً جديداً

مهما كانت نتائج اللقاء بين ترامب والشرع، فإن التاريخ سيسجل أن رئيسًا سورياً وطأت قدماه البيت الأبيض للمرة الأولى منذ استقلال بلاده. زيارة تحمل في طياتها رمزية التحول، ومؤشرات على مرحلة جديدة قد تغيّر معادلات المنطقة بأسرها.

من “الجولاني” المطلوب دولياً إلى “الشرع” الذي يصافح رئيس الولايات المتحدة — بين هذين المشهدين عشر سنوات فقط، لكنها كفيلة بإعادة رسم ملامح الشرق الأوسط من جديد.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 3