السويداء المنقسمة: اشتباكات طائفية تُهجّر البدو وتُعيد رسم خريطة الجنوب السوري

2025.11.08 - 04:15
Facebook Share
طباعة

كشفت صحيفة «الشرق الأوسط» في تقرير ميداني موسّع من جنوب سوريا عن مأساة آلاف العائلات البدوية التي نزحت من محافظة السويداء بعد اندلاع اشتباكات طائفية عنيفة بين الدروز والبدو السنة، ما أدى إلى انهيار تام للتعايش الذي استمر لعقود، وتبدّد آمال النازحين في العودة إلى منازلهم وسط انقسام اجتماعي وسياسي حاد، وتدخلات إقليمية زادت المشهد تعقيداً.

 


مأساة عائلة فقدت ابنتها ليلة زفافها

في قرية نوى بمحافظة درعا، تجلس فصل صبيح أمام خيمتها المتواضعة، تحتضن صورة ابنتها ملك ذات العشرين عاماً، التي قُتلت ليلة زفافها خلال محاولتهم الفرار من بلدتهم أم الزيتون في السويداء. تقول الأم بصوت متهدّج: «هربنا من المدرسة اللي حبسونا فيها، بس الرصاص كان يلاحقنا... ماتت ملك في حضني».

وتعيش عائلة صبيح المؤلفة من عشرة أفراد في ظروف بالغة القسوة بعد أن فرّوا من القتال، ليصبحوا واحداً من آلاف العائلات التي هُجرت قسراً إثر اندلاع أعمال العنف الطائفية في يوليو (تموز) الماضي.

 


من التعايش إلى الاقتتال

كانت السويداء، ذات الغالبية الدرزية، لعقود نموذجاً لتعايش هشّ بين الدروز والبدو السنة. لكن هذا التوازن انهار سريعاً بعد حادثة اختطاف تاجر درزي على الطريق إلى دمشق، اتُهم فيها بدو محليون. وتحوّلت الحادثة إلى سلسلة من عمليات الخطف المتبادل، تلتها اشتباكات عنيفة أودت بحياة أكثر من ألف شخص، وفقاً لمصادر محلية نقلت عنها «رويترز».

فيصل صبيح، رب العائلة، يقول إن مسلحين من جماعات موالية لرجل الدين الدرزي الشيخ حكمت الهجري، اقتادوا عائلته مع آخرين إلى مدرسة في قرية أم الزيتون، حيث احتُجزوا ثلاثة أيام. وحين حاولوا الهروب بعد اختفاء الحراس، «أطلقوا النار علينا، فتفرّقنا كلٌّ في اتجاه. ماتت ابنتي ووالدي وحفيدتي، وانتهت حياتنا في لحظة».

 


اتهامات متبادلة وإنكار رسمي

يتهم نازحون من البدو جماعات درزية مسلحة بتنفيذ حملة تطهير عرقي ضدهم، وهو ما أكده أكثر من 12 نازحاً تحدثوا إلى «رويترز». في المقابل، ينفي زعماء دروز هذه الرواية، ويؤكدون أنهم حاولوا حماية العائلات البدوية من أي انتقام.

طارق المغوش، القيادي في «الحرس الوطني» الدرزي الموالي للهجري، قال إن «عودة البدو إلى السويداء مرفوضة حالياً، لأنهم كانوا مركز الفتنة»، متهماً بعضهم بالتعاون مع جماعات متشددة. وأوضح أن مقاتلين دروز قاموا بتجميع عائلات بدوية في ملاجئ مؤقتة «لحمايتهم»، قبل إجلائهم إلى درعا في إطار هدنة رعَتها الولايات المتحدة.

أما الحكومة السورية، فنفت مزاعم ارتكاب «إبادة جماعية»، لكنها أقرت بوقوع تجاوزات من الطرفين. وقالت وزارة الإعلام إنها شكلت لجنة تحقيق واعتقلت عدداً من عناصر الأمن للاشتباه في تورطهم في أعمال عنف، مؤكدة أن «الطرفين يتحملان المسؤولية عن الانتهاكات التي وقعت».

 


خريطة طريق متعثّرة ورفض محلي

في سبتمبر (أيلول)، أعلنت الحكومة السورية خريطة طريق من 13 بنداً اتفقت عليها مع واشنطن وعمان، تتضمن إعادة النازحين واستعادة الخدمات. غير أن الهيئة المحلية الموالية للهجري في السويداء رفضت الخطة، واعتبرتها «تدخلاً في الشؤون الداخلية»، وطالبت بتقرير المصير للمحافظة.

مصادر في وزارة الخارجية السورية قالت إن «أمن الدروز والبدو مرهون بإعادة سيطرة الدولة الكاملة»، في حين ترى واشنطن أن التقدم في تنفيذ الخطة ما زال محدوداً، وأن الخلاف حول استقلال السويداء يعطل جهود التسوية.

 


دور إسرائيلي مثير للجدل

في ذروة القتال، تدخلت إسرائيل بشنّ ضربات جوية على مواقع تابعة للجيش السوري في السويداء، بزعم حماية أبناء الطائفة الدرزية، وهو ما اعتبرته دمشق «عدواناً سافراً» هدفه تقسيم الجنوب السوري وإشعال فتيل الفتنة الطائفية.

وقالت مصادر محلية إن الهجمات الإسرائيلية ساهمت في ترسيخ نفوذ الجماعات المسلحة الموالية للهجري داخل المحافظة، وأعاقت جهود الجيش السوري لاستعادة السيطرة الكاملة عليها.

 

نزوح واسع ومستقبل غامض

تقدّر الحكومة السورية عدد النازحين من السويداء بأكثر من 200 ألف شخص، بينهم نحو 70 ألفاً من البدو. لكن ممثلي العشائر يؤكدون أن الرقم الحقيقي أعلى بكثير، إذ نزحت تقريباً جميع العائلات البدوية البالغ عددها أكثر من 120 ألفاً.

مصطفى العميري، المحامي والمتحدث باسم البدو النازحين، قال إن «العودة شبه مستحيلة في الوقت الراهن، لأن البيوت نُهبت والأراضي صودرت، ولا ضمانات من أي طرف». وأضاف أن «الحل الوحيد هو عودة الدولة وانتشار الجيش في المحافظة بالكامل».

 

جراح مفتوحة وذاكرة مثقلة

الباحث السوري حايد حايد، من «مركز مبادرة الإصلاح العربي» في باريس، قال إن «الاقتتال الطائفي في السويداء كشف عن عمق الشرخ الاجتماعي، وسيكون من الصعب إعادة بناء الثقة دون عملية مصالحة حقيقية». وأضاف: «الناس رأوا وجهاً جديداً من جيرانهم... صاروا يرون بعضهم كأعداء لا كبشر».

أما فيصل صبيح، الذي فقد منزله وأرضه وابنته، فيختم قصته بمرارة:
«اشتغلت عمري كله حتى أبني بيت وأعيش بكرامة... في لحظة واحدة راح كل شيء. ما عاد في رجعة، دمرونا».

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 3