لم يكن بيان "أبرشية عكّار للروم الأرثوذكس" الصادر الخميس مجرّد موقف ديني يدعو للتهدئة، بقدر ما كان نداءً سياسياً – اجتماعياً أراد أن يقطع الطريق أمام تصاعد التوتر في ريف حمص الغربي، حيث تختلط العواطف الطائفية بالتجاذبات الأمنية والذاكرة الثقيلة للحرب.
ففي مساء اليوم ذاته، شهدت بلدات الحصن ووادي النصارى توتراً ملحوظاً، بعد أن أغلقت الأجهزة الأمنية طرقاً رئيسية، من بينها طريق "الدباغة" الذي يصل قلعة الحصن ببلدة عناز، ما أثار ردود فعل غاضبة بين الأهالي الذين رأوا في الإغلاق خطوة عقابية جماعية تفتح الباب أمام مزيد من الانقسام.
الأبرشية، في بيانها، حاولت إعادة ضبط المزاج العام في منطقة لطالما وُصفت بأنها نموذج للتعايش السوري، مشيرةً إلى أن المنشورات المتداولة على وسائل التواصل لا تعبّر عن الرأي العام الحقيقي. ودعت إلى ترك المجال للجهات المختصة لمعالجة القضايا ضمن القانون، محذّرةً من الانجرار خلف خطاب التحريض أو الشائعات التي تُغذّي النزاعات المحلية.
لكن خلف اللغة الهادئة للبيان، يمكن قراءة قلقٍ حقيقي من تحوّل التوتر الاجتماعي إلى أزمة مفتوحة، خصوصاً أن المنطقة ما زالت تتعافى من آثار الحرب والانقسام. فالحادثة الأخيرة لم تكن معزولة؛ بل جاءت امتداداً لتوترات بدأت مطلع الشهر الماضي بعد مقتل وسام منصور، القيادي في ميليشيا "نسور الزوبعة" التابعة لـ"الحزب السوري القومي الاجتماعي".
منصور، الذي وُجهت إليه اتهامات حقوقية بارتكاب انتهاكات واسعة بين عامي 2012 و2014، كان شخصية مثيرة للجدل، واغتياله فجّر مشاعر متباينة بين من اعتبره "رمزاً" ومن رآه "مجرم حرب". ومع مقتله، عادت لغة التحشيد القديمة لتطل برأسها في الوادي، قبل أن يتدخل وجهاء وفعاليات محلية لاحتواء الغضب.
ولم يمرّ وقت طويل حتى بدأت الأبرشية تدرك أن الفراغ في الخطاب المعتدل قد يملؤه المتطرفون من كل الأطراف، فبادرت إلى إصدار بيانها الذي أعاد التوازن مؤقتاً. وسرعان ما أُعيد فتح الطرق المغلقة بعد وساطات أهلية، وأُلغي التجمّع السلمي الذي كان مقرراً يوم الجمعة، في مؤشرٍ على نجاح جزئي لجهود التهدئة.
البيان لم يكن مجرد دعوة إلى الصبر، بل رسالة ضمنية إلى الدولة والمجتمع معاً بأن "الأمن لا يتحقق بالقوة وحدها"، وأن الحفاظ على النسيج الاجتماعي يتطلّب لغة مشتركة لا تُقصي أحداً. ففي ريف حمص الغربي، لا تزال الذاكرة مثقلة بأحداث السنوات الماضية، ويكفي شرارة صغيرة لإعادة إشعال الخلافات القديمة.
وفي بلدٍ أنهكته الانقسامات، يبقى الصوت الداعي للتهدئة – مهما بدا بسيطاً – فعل مقاومةٍ في وجه الفتنة، ومحاولة لاستعادة ما تبقى من معنى "العيش المشترك" الذي كان يوماً ما سمة هذه المنطقة.