في الوقت الذي تعيد فيه سوريا تشكيل ملامحها السياسية والاجتماعية بعد سقوط النظام السابق، برز اسم جهاد عيسى الشيخ، المعروف بـ“أبو أحمد زكور”، كأحد أبرز الوجوه العائدة إلى الواجهة في المشهد العشائري، بعد غياب دام لسنوات قضاها متنقلاً بين مناطق النفوذ والصراع.
من سجون صيدنايا قبل أكثر من عقد، إلى قصر الضيافة في حلب اليوم، عاد الرجل الذي كان يومًا أحد أبرز قيادات “هيئة تحرير الشام”، ليشغل موقعًا رسميًا كمستشار للرئيس أحمد الشرع لشؤون العشائر. عودة أثارت اهتمام المراقبين، خصوصًا في ظل حراك واسع تقوده شخصيات عشائرية شمالي وشرقي البلاد، يُنظر إليه كمحاولة لإعادة التوازن في مناطق النفوذ المتشابكة شرق الفرات.
تحركات مكثفة بين سوريا وتركيا
خلال الأسابيع الأخيرة، قاد الشيخ جولات مكثفة شملت مدنًا وبلدات في ريف الحسكة والرقة ودير الزور، تخللتها لقاءات مع وجهاء العشائر العربية. كما عقد اجتماعات موسعة في الولايات التركية الجنوبية، أبرزها أورفا وماردين وكيليس، التي تضم تجمعات كبيرة من العشائر السورية النازحة.
ووفق مصادر مطلعة، تهدف هذه التحركات إلى “إعادة بناء الجسور بين المكونات العشائرية داخل سوريا وخارجها، وإيصال رسائل طمأنة حول مستقبل دور العشائر في الإدارة المحلية والأمنية”.
يرافق الشيخ في تحركاته رئيس مجلس القبائل والعشائر السورية عبد المنعم الناصيف، في إطار ما يبدو أنه مشروع منظم لإعادة صياغة التوازن الاجتماعي والسياسي في المناطق الشرقية.
أورفا.. عقدة الوصل بين الداخل والشتات
تُعد ولاية أورفا التركية نقطة محورية في هذا الحراك، إذ تضم أكبر تجمع من أبناء العشائر السورية القادمين من دير الزور والرقة والحسكة.
وخلال لقائه وجهاء العشائر هناك، شدد الشيخ على أهمية “الحفاظ على الروابط العشائرية” وضرورة أن تبقى هذه البنية الاجتماعية فاعلة في دعم الاستقرار، سواء داخل سوريا أو في مناطق اللجوء.
كما أشار إلى “أهمية التنسيق بين العشائر السورية والتركية ذات الأصول العربية”، باعتبارها جسرًا اجتماعيًا يمكن أن يُستخدم لترسيخ الحوار بين الجانبين، خاصة مع تشابك العلاقات التاريخية بين القبائل على طرفي الحدود.
رأس العين.. رسائل داخلية متعددة
بعد جولته التركية، انتقل الشيخ إلى رأس العين شمالي الحسكة، في زيارة وُصفت بأنها “ذات طابع رمزي ورسائل سياسية”.
فقد التقى هناك عدداً من وجهاء القبائل العربية، إلى جانب شخصيات دينية مسيحية محلية، في إشارة إلى الرغبة في إظهار الانفتاح بين مكونات المجتمع السوري.
ودعا الشيخ خلال اللقاءات إلى “تجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية، والعمل على ترسيخ مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية”.
المراقبون رأوا أن هذه الزيارة تحمل أكثر من رسالة: فهي من جهة تسعى لترميم العلاقات بين المكوّن العربي والحكومة الجديدة، ومن جهة أخرى تهدف إلى توجيه رسائل طمأنة للمكونات الأخرى، في ظل حالة التوتر التي تشهدها مناطق شرق الفرات بين العرب والأكراد.
تحليل سياسي.. بين الضغط والتقارب
يرى محللون أن الحراك العشائري بقيادة الشيخ يمثل إحدى أوراق الضغط السياسي التي تستخدمها دمشق لإعادة التموضع في الجزيرة السورية، خاصة مع تصاعد الخلافات بين “قوات سوريا الديمقراطية” وبعض المكونات العربية المتحالفة معها.
التحركات الأخيرة تُقرأ أيضًا في سياق السعي لاستثمار حالة التذمر الشعبي في مناطق سيطرة “قسد”، ودفعها نحو التفاهم مع الحكومة الانتقالية ضمن إطار “اتفاق 10 آذار” الذي يتضمن بنودًا لتقاسم السلطة والإدارة.
وفي المقابل، يرى آخرون أن دمشق تحاول إعادة إحياء الدور التقليدي للعشائر كقوة توازن داخلية، عبر تمكينها من إدارة شؤونها المحلية، وهو ما يمنحها نفوذًا اجتماعيًا قد يخفف من هيمنة القوى العسكرية في المنطقة.
“أبو أحمد زكور”.. من السجن إلى السياسة
ولد جهاد عيسى الشيخ في حي الميسر بمدينة حلب، وينتمي إلى عشيرة “البوعاصي” إحدى فروع قبيلة البكارة المعروفة.
اعتُقل عام 2006 على خلفية نشاطات مرتبطة بتهريب مقاتلين إلى العراق، قبل أن يُفرج عنه عام 2012 بموجب عفو رئاسي. لاحقًا، برز كقيادي في “جبهة النصرة”، قبل أن يصبح من أبرز وجوه “هيئة تحرير الشام”، ويُعرف بعلاقته الوثيقة مع زعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني).
لكن علاقته مع الهيئة توترت عام 2023 إثر خلافات داخلية، وانشق عنها ليفرّ شمالًا، حيث حاولت “تحرير الشام” اعتقاله في مدينة إعزاز دون نجاح. وبعد شهور، ظهر مجددًا في صورة مع الرئيس أحمد الشرع داخل قصر الضيافة في حلب، معلنًا عودته إلى المشهد بموقع رسمي كمستشار لشؤون العشائر.
اليوم، يجد الشيخ نفسه لاعبًا محوريًا في إعادة رسم خريطة النفوذ العشائري والسياسي في سوريا الجديدة، وسط تساؤلات حول الدور الذي يمكن أن يؤديه في موازنة القوى بين دمشق وشرق الفرات، وما إذا كانت عودته تمهد لمرحلة جديدة من التحالفات أو لإعادة إنتاج أدوات النفوذ القديمة بثوبٍ جديد.