رغم مرور قرابة عام على سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، ما تزال أوضاع السجون والمعتقلات في سوريا تثير الجدل والقلق بين الأوساط الحقوقية والإنسانية. فالممارسات المرتبطة بالاعتقال والاحتجاز لم تشهد تغييرات جوهرية، بحسب تقارير ميدانية وشهادات من داخل البلاد، في وقت تواصل فيه الحكومة الانتقالية والجهات المسيطرة على الأرض إدارة الملف بأساليب متباينة، لكنها في معظمها تفتقر إلى المعايير القانونية والإنسانية.
خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2025، وثّقت منظمات حقوقية وشبكات محلية آلاف حالات التوقيف والاحتجاز، كثير منها جرى خارج الأطر القضائية أو دون مذكرات قانونية. وتنوّعت الأسباب بين الاشتباه الأمني، والنزاعات المحلية، والخلافات السياسية، أو حتى التعبير عن الرأي، في وقت ما زالت فيه السجون تغصّ بآلاف الموقوفين من الرجال والنساء والأطفال في مختلف المحافظات.
ما بعد السقوط.. سياسات لم تتغير
توقّع كثير من السوريين أن يشكّل سقوط النظام السابق بداية مرحلة جديدة يسودها القانون والمحاسبة، إلا أن المشهد الحالي يعكس استمرار الأساليب القديمة في الاعتقال والتوقيف. لا تزال الاعتقالات التعسفية تمثل ظاهرة قائمة، كما تستمر شكاوى الموقوفين وذويهم من غياب المحاكمات العادلة واحتجاز أشخاص دون تهم واضحة أو فترات محددة.
وتشير تقارير ميدانية إلى أن عددًا من المعتقلين توفوا في مراكز احتجاز مختلفة خلال العام الجاري، في ظل غياب التحقيقات الرسمية أو المساءلة القانونية، ما أثار تساؤلات حول مدى التزام السلطات الجديدة بالمعايير الحقوقية التي تعهّدت بها عقب توليها الحكم.
السجون في مناطق الحكومة الانتقالية
منذ تشكيل الحكومة الانتقالية في مارس 2025، أصبحت مسؤولة عن إدارة معظم السجون ومراكز الاحتجاز في دمشق وحلب وإدلب ومناطق الشمال. إلا أن غياب الشفافية وتعدد المرجعيات الأمنية ما زال يعرقل توحيد المعايير والإشراف القضائي الكامل على هذه المرافق.
وفي مناطق إدلب وريف حلب، حيث كانت الهيئات المحلية والفصائل المسلحة تشرف سابقًا على السجون، ما زالت التقارير تتحدث عن استمرار تجاوزات فردية وممارسات خارج الأطر القانونية، مع نقص واضح في آليات الرقابة والمساءلة.
مراكز الاحتجاز في مناطق الإدارة الذاتية
أما في شمال شرق البلاد، فتدير الإدارة الذاتية شبكة من السجون التي تضم آلاف المحتجزين، بينهم سوريون وأجانب يُشتبه بانتمائهم لتنظيم “داعش”. وتعاني هذه المرافق من ظروف صعبة نتيجة الانتهاكات التي تمارسها عناصر قسد بحق السجناء وضعف الإمكانيات ونقص التمويل، إضافة إلى تعقيدات قانونية تحول دون محاكمة بعض السجناء أو إعادتهم إلى بلدانهم. كما تؤكد مصادر محلية أن الاكتظاظ والحصار المفروض على المنطقة فاقما الوضع الإنساني داخل تلك المراكز.
الزيارات والحقوق الأساسية
تختلف إمكانية زيارة الأهالي للمحتجزين من منطقة إلى أخرى، وغالبًا ما تكون خاضعة لتقديرات الجهات الأمنية أو مقابل مبالغ مالية تُدفع لوسطاء. في كثير من الحالات، لا يعرف ذوو المعتقلين مكان احتجاز أبنائهم، الأمر الذي يفاقم القلق والمعاناة النفسية. ورغم الدعوات المتكررة لوضع آلية رسمية تضمن حق الزيارة والاطلاع على أوضاع السجناء، إلا أن هذا الملف ما زال عالقًا بين تعدد الجهات المسؤولة وغياب التنسيق.
الاختفاء القسري والمقابر المكتشفة
لا يزال ملف المختفين قسريًا من أكثر الملفات غموضًا وإيلامًا في المشهد السوري. فبعد سقوط النظام، تم اكتشاف عدة مقابر جماعية في مناطق مختلفة، يُعتقد أن بعضها يعود لضحايا الفترات السابقة. غير أن التحقيقات ما تزال محدودة بسبب نقص الموارد وصعوبة التحقق من هوية الضحايا. وتطالب أسر المفقودين الحكومة الانتقالية بتسريع العمل في هذا الملف وتمكين العائلات من معرفة مصير أبنائها.
معتقلون خارج الحدود
إلى جانب المعتقلين داخل البلاد، ما يزال آلاف السوريين محتجزين في دول مجاورة بتهم تتعلق بالعبور غير النظامي أو الإقامة غير القانونية. ولم تعلن الحكومة الانتقالية حتى الآن عن خطة واضحة لإعادتهم أو متابعة أوضاعهم، رغم المناشدات المتكررة من عائلاتهم ومنظمات حقوقية.
ابتزاز ومعاناة مزدوجة
تتحدث تقارير ميدانية عن استمرار ظاهرة ابتزاز أهالي المعتقلين، حيث يلجأ بعض الوسطاء إلى استغلال معاناة الأسر، مدّعين قدرتهم على توفير معلومات أو تسهيلات مقابل مبالغ مالية. هذه الممارسات لم تختفِ بسقوط النظام السابق، بل ما زالت تظهر بأشكال مختلفة في ظل غياب رقابة مركزية أو نظام موحد للسجون.
ورغم الجهود التي تبذلها بعض الهيئات الحقوقية لتوثيق الانتهاكات، فإن غياب المساءلة الفعلية يبقي ملف السجون والمعتقلات واحدًا من أكثر الملفات تعقيدًا في سوريا ما بعد الحرب، في انتظار حلول واقعية تضع حدًا لعقود من الانتهاكات وتفتح الباب أمام العدالة والمصالحة.