في مشهد انتخابي قلب كل المعادلات داخل واحدة من أكثر المدن الأميركية نفوذًا، تمكن زوهران ممداني – الشاب المسلم التقدمي، ابن المهاجرين، والناشط اليساري المعروف بمواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية – من إحداث زلزال سياسي غير مسبوق بفوزه بمنصب عمدة نيويورك.
فوز ممداني لم يكن مجرد انتصار انتخابي لشخص أو تيار، بل تحوّل جذري في بنية النفوذ داخل مدينة طالما وُصفت بأنها "Jewish York"، باعتبارها مركزًا تقليديًا للمال والإعلام وجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل.
حرب انتخابية أم معركة نفوذ؟
الحملة ضد ممداني تجاوزت كل المعايير الانتخابية المعتادة، وتحولت إلى حرب استنزاف شاملة.
واجه المرشح الشاب سيلًا من الهجمات الإعلامية المنظمة، وحملات تشويه ممنهجة قادتها جماعات ضغط قوية، على رأسها AIPAC، التي أنفقت ملايين الدولارات في محاولة لمنعه من دخول مكتب العمدة.
الخطاب الإعلامي ضده لم يكن سياسيًا فحسب، بل اتخذ طابعًا أيديولوجيًا وتحريضيًا؛ إذ وُصف ممداني بـ"الإرهابي" و"الخطر على هوية المدينة"، فقط لأنه طالب علنًا بمحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب في غزة، ودافع عن حق الفلسطينيين في الحياة والحرية.
ورغم تلك الضغوط، لم يتراجع، بل اختار أن يجعل من الكرامة والعدالة الاجتماعية محورًا لحملته، متحدثًا باسم فئات لطالما تم تهميشها في المشهد السياسي الأميركي: العمال، الشباب، والمهاجرون.
"القانون فوق الجميع".. لحظة كسرت حاجز الخوف
اللحظة الفاصلة في مسار الحملة كانت عندما صرّح ممداني خلال أحد خطاباته: "إذا دخل نتنياهو نيويورك، فسوف أتعامل معه كما نتعامل مع أي مشتبه بارتكاب جرائم حرب. القانون فوق الجميع."
الجملة كانت كفيلة بإطلاق العنان لأكبر حملة ضغط في تاريخ انتخابات المدينة.
لكن النتيجة جاءت عكس ما أراد خصومه: المجتمع انتفض، القاعدة الشعبية تحركت، وسقطت الماكينة السياسية والإعلامية أمام موجة دعم شعبي غير مسبوقة.
من شعار إلى مشروع تغيير
أبرز ما ميّز خطاب ممداني أنه لم يعتمد على الشعارات، بل على سياسات واضحة ومباشرة.
قال في أحد لقاءاته الجماهيرية: "لن تُدار هذه المدينة من خلف الأبواب المغلقة ولا عبر شيكات جماعات الضغط."
"كرامة الإنسان جزء من أمن الدولة، لا تهديد لها."
"من حق كل مواطن أن يعيش حياة كريمة، بدون أن يُباع مستقبله لصالح شركات العقار أو مصالح وول ستريت."
رسائل ممداني لاقت صدى واسعًا لأنها لامست وجع المدينة الحقيقي: ارتفاع الأسعار، أزمة السكن، الفساد المستشري، وتضاؤل العدالة الاجتماعية لصالح شبكات النفوذ المالي.
تحول في هندسة السلطة داخل نيويورك
ما حدث في نيويورك لا يمثل مجرد فوز انتخابي جديد، بل تحولًا بنيويًا في هندسة النفوذ داخل المدينة.
فللمرة الأولى منذ عقود، تمكّن مرشح من خارج المنظومة التقليدية من كسر احتكار القرار السياسي الذي كانت تتحكم فيه قوى المال والإعلام.
ظهرت قاعدة انتخابية جديدة:
شباب غاضبون من فساد الطبقة السياسية.
مهاجرون يسعون لتمثيل حقيقي.
طبقة عاملة أنهكها الغلاء وتراجع العدالة.
هذه الفئات مجتمعة شكلت تحالفًا شعبيًا واسعًا أعاد تعريف العلاقة بين السياسة والمجتمع، محولًا المعركة من سؤال "من يحكم؟" إلى سؤال أعمق:
> "كيف يُحكم؟ ولصالح من؟"
من نيويورك إلى أميركا
"زلزال ممداني" – كما وصفته الصحف الأميركية – ليس حدثًا عابرًا.
إنه بداية عصر سياسي جديد داخل المدن الكبرى في الولايات المتحدة، حيث تتراجع هيمنة المال السياسي وجماعات الضغط أمام يقظة اجتماعية تعيد الاعتبار لصوت القاعدة الشعبية.
لقد أثبت فوز ممداني أن المعادلة القديمة سقطت:
> عندما يتكلم المجتمع، يسقط النفوذ.
وعندما تتحرك القاعدة، يسقط المال.
من نيويورك بدأت الصدمة الأولى…
لكن ارتداداتها ستصل إلى واشنطن، وربما إلى النظام السياسي الأميركي كله.