في أحد مستشفيات ولاية فلوريدا الأميركية، كان شاب سوري يتصفح هاتفه من الملل عندما صادف خبراً قلب حياته رأساً على عقب: الولايات المتحدة ألغت رسمياً تصنيف سوريا ضمن الدول المشمولة ببرنامج “الحماية المؤقتة”.
الخبر لم يكن عادياً بالنسبة له، فهو يعاني من مرض مناعي مزمن في الكبد منذ أكثر من عقد، وجاء إلى الولايات المتحدة للعلاج قبل 12 عاماً. لكن القرار يعني أنه بات أمامه 60 يوماً فقط لمغادرة البلاد، أو أن يصبح مقيماً “غير شرعي”.
برنامج الحماية المؤقتة هو نظام يمنح مواطني الدول التي تعاني من الحروب أو الكوارث حق البقاء والعمل في الولايات المتحدة بعد انتهاء تأشيراتهم، إذا كانت عودتهم تشكل خطراً على حياتهم.
لكن منذ مطلع هذا العام، بات البرنامج هدفاً لحملة واسعة لتقييد الهجرة. وبعد قرارات سابقة شملت فنزويلا وأفغانستان ونيبال وغيرها، جاء الدور على سوريا، لتفقد رسمياً وضعها القانوني الذي حافظ عليه آلاف السوريين منذ عام 2012.
بالنسبة لآلاف العائلات السورية، يعني القرار نهاية حياة استقرت لسنوات، وبداية سباق مع الزمن لإيجاد مخرج قانوني قبل 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، الموعد النهائي للمغادرة الطوعية.
رحلة من حمص إلى فلوريدا
بدأت قصة كثيرين مثل هذا الشاب منذ سنوات الحرب الأولى. فمع انهيار النظام الصحي في سوريا، اضطر بعض المرضى للسفر بحثاً عن العلاج.
في عام 2013، حصل على تأشيرة زيارة إلى الولايات المتحدة بعد رحلة طويلة بين دمشق وبيروت، برفقة والدته. وبعد انتهاء صلاحية تأشيرته، منحه برنامج الحماية المؤقتة فرصة للبقاء القانوني.
خلال أكثر من عقد، أكمل دراسته الجامعية، وبدأ حياته المهنية، وافتتح مشروعاً صغيراً.
لكن مع القرار الجديد، وجد نفسه فجأة أمام واقع مختلف تماماً، يقول: “أعيش يوماً بيوم، ولا أعرف ما ينتظرني بعد الشهر القادم”.
تاريخ من الحماية.. ونهاية مفاجئة
في عام 2012، أُدرجت سوريا لأول مرة ضمن برنامج الحماية المؤقتة بسبب “الاضطرابات العنيفة وتدهور الأوضاع الأمنية”. ومنذ ذلك الوقت، جرى تجديد التصنيف بشكل دوري كل 18 شهراً.
حتى خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق، استمر البرنامج رغم محاولات تقليصه في دول أخرى. لكن في سبتمبر الماضي، قررت دائرة خدمات الهجرة والجنسية الأميركية أن “الأوضاع في سوريا لم تعد تمنع مواطنيها من العودة”، وأعلنت إنهاء البرنامج.
القرار جاء قبل 11 يوماً فقط من الموعد الدوري لإعادة المراجعة، ما ترك آلاف السوريين في حالة صدمة.
فعلى الرغم من التغيرات السياسية التي شهدتها البلاد بعد سقوط النظام السابق، ما تزال البنية التحتية مدمرة، والخدمات الأساسية شحيحة، والأمن هشّاً في مناطق كثيرة.
تشير استطلاعات الأمم المتحدة إلى أن غالبية اللاجئين السوريين لا ينوون العودة في المدى القريب، بسبب نقص السكن والعمل والمخاوف الأمنية. أكثر من نصفهم يرون أن العودة الآمنة ما تزال بعيدة المنال.
سياسة لا إنسانية
تقول جمعيات حقوقية إن القرار الأميركي لم يُبنَ على تقييم إنساني للأوضاع، بل جاء في سياق سياسي مرتبط بتشديد سياسات الهجرة.
ففي الوقت الذي تصف فيه وزارة الأمن الداخلي سوريا بأنها “بؤرة خطر”، تعتبرها في الوقت نفسه “وجهة آمنة للعودة”، في تناقض صارخ يعكس النهج المتشدد تجاه المهاجرين.
ويخشى مراقبون أن يتحول السوريون الحاصلون على الحماية المؤقتة إلى ضحايا جديدة لسياسات انتخابية تهدف لإظهار الحزم في ملف الهجرة.
إلغاء البرنامج الأميركي يتماشى أيضاً مع توجه عالمي مشابه، إذ علّقت دول أوروبية مثل ألمانيا والسويد والنمسا معالجة طلبات اللجوء السورية، وألغت المملكة المتحدة برامج لمّ الشمل في سبتمبر الماضي، بحجة “تحسن الوضع الأمني في سوريا”.
ذعر في الجاليات السورية
يعيش السوريون الحاصلون على الحماية المؤقتة في الولايات المتحدة حالة من القلق الشديد.
منظمات مدنية محلية تحدثت عن “ذعر جماعي” بين آلاف الأسر التي بنت حياتها هنا منذ أكثر من عشر سنوات.
يقول أحد الناشطين إن “الناس يعلمون أن الحماية مؤقتة بطبيعتها، لكنها كانت شبكة أمان نفسية وقانونية. أن تنهار فجأة خلال شهرين، هذا قاسٍ جداً”.
منذ سبتمبر، تعمل منظمات المهاجرين على توفير الاستشارات القانونية والخيارات الممكنة للبقاء. لكن الخيارات محدودة: تقديم طلب لجوء جديد، أو الحصول على تأشيرة عمل أو دراسة، أو المغادرة الطوعية قبل انتهاء المهلة.
قصص معلّقة
القرار لم يهدد المرضى فقط، بل طال أيضاً طلاباً وعائلات.
شاب سوري يعيش في ولاية أوهايو بنى حياته هناك، يعمل في البناء، اشترى منزلاً، ورُزق بطفلين وُلدا في أميركا. يقول إنه لا يستطيع العودة إلى سوريا، حيث لم يعد منزله موجوداً، وأطفاله لا يعرفون اللغة العربية.
وفي ولاية كنتاكي، تخشى شابة سورية تعمل في مجال طب الأسنان أن تفقد كل ما أنجزته في تدريبها، وهي على بُعد أشهر من إنهاء برنامج الإقامة الطبية.
كثير من السوريين ينتمون إلى طوائف مختلفة يخشون العودة إلى مناطق شهدت تصاعداً في أعمال العنف الطائفي خلال الأشهر الأخيرة، خصوصاً في الساحل والسويداء، ما يجعل العودة محفوفة بالمخاطر.
مواجهة قانونية غير مضمونة
رفع عدد من السوريين دعوى قضائية جماعية للطعن في قرار الإنهاء، بدعم من منظمات حقوقية، معتبرين أن القرار “تعسفي ومخالف للقانون”، لأنه لم يراعِ المعايير الإنسانية ولا منح فترة انتقالية كافية.
لكن خبراء قانونيين يرون أن فرص نجاح الطعون ضعيفة، رغم أن بعض القضايا المشابهة في الماضي ساهمت في تأجيل تنفيذ القرارات.
في هذه الأثناء، بدأ بعض السوريين فعلاً بترتيب رحلات العودة، خوفاً من الملاحقة أو المنع الدائم من دخول الولايات المتحدة.
في المقابل، يختار آخرون البقاء رغم الخطر القانوني، في انتظار أي تغيير محتمل في السياسة أو صدور قرار قضائي جديد.
مستقبل غامض
مع اقتراب الموعد النهائي، يعيش آلاف السوريين في أميركا بين القلق والترقب.
القرار لا يمسّ الإقامة فحسب، بل يهدد حياة أشخاص يعانون من أمراض مزمنة، وآخرين لديهم أسر وأطفال وارتباطات مهنية في المجتمع الأميركي.
يقول أحدهم: “لقد بنينا حياتنا هنا، الأمر لا يُحل بتذكرة طائرة وألف دولار”.
وهكذا، يجد السوريون أنفسهم اليوم عالقين بين وطنٍ لا يستطيعون العودة إليه، وبلدٍ لم يعد يسمح لهم بالبقاء فيه، في مشهد يعكس هشاشة مفهوم “الملاذ الآمن” عندما تُدار السياسات الإنسانية بمنطق المصالح السياسية.