الدواء في لبنان بين المصالح والرقابة

2025.11.04 - 09:01
Facebook Share
طباعة

 
بعد أكثر من عقدين من التعطيل المقصود، عاد مشروع إحياء المختبر المركزي للأدوية في لبنان إلى دائرة الضوء، مثيراً جدلاً سياسياً واقتصادياً واسعاً بين من يراه خطوة إصلاحية ضرورية لحماية صحة اللبنانيين، ومن يسعى إلى إبقائه مجمداً خدمةً لمصالح “لوبي الدواء” الذي راكم أرباحه في غياب الرقابة.

إقرار مجلس الوزراء اتفاقية التعاون بين وزارة الصحة العامة والجامعة اللبنانية لإنشاء المختبر، لم يكن إنجازاً عادياً بقدر ما شكّل اختباراً جديداً لقدرة الدولة على مواجهة شبكات النفوذ المتغلغلة في قطاع الدواء، والتي اعتادت العمل في الظل بعيداً عن أي رقابة حقيقية.


عشرون عاماً من التعطيل المقصود
قصة المختبر المركزي ليست جديدة. فبعد أن كان المرجعية الرسمية لتحليل الأدوية ومراقبة جودتها، جرى هدم مقره عام 2007 بذريعة “الاعتبارات الأمنية” لقربه من مبنى الرئاسة الثانية في عين التينة. لكن تلك الذريعة، كما يصفها خبراء الصحة، كانت “الغطاء السياسي لقرار مدروس” هدفه إلغاء سلطة علمية رقابية مزعجة لأصحاب المصالح.

ومنذ ذلك الحين، فشلت كل محاولات إعادة تشغيل المختبر بسبب نفوذ الشركات والمستوردين والسياسيين المرتبطين بسوق الدواء، وهو ما سمّاه وزير الصحة الأسبق كرم كرم يوماً بـ“تحالف المافيا الصحية”، الذي حمى مصالحه على حساب صحة المواطنين.


فوضى الدواء تكشف الحاجة إلى المختبر
مع الانهيار المالي الذي ضرب لبنان بعد عام 2019، تحوّل سوق الدواء إلى ساحة فوضى مفتوحة، غزتها الأدوية المزورة والمقلدة ومنخفضة الفاعلية. وتشير تقديرات “هيئة الصحة حق وكرامة” إلى أن أكثر من نصف الأدوية المتداولة خلال الأزمة كانت إما مغشوشة أو غير مطابقة للمواصفات.

في مواجهة هذا الواقع، أطلقت وزارة الصحة خطة لإحياء المختبر المركزي، عبر شراكة أكاديمية وإدارية مع الجامعة اللبنانية لتأمين المكان والتجهيزات والإشراف الفني. إلا أن الاتفاقية واجهت اعتراضات داخل مجلس الوزراء، من وزراء رأوا ضرورة تأجيلها لصالح إنشاء “الوكالة الوطنية للدواء” أولاً، وهو ما وصفه وزير الصحة ركان ناصر الدين بأنه “تبرير غير منطقي، لأن المختبر والوكالة متكاملان لا متنافسان”.


تمويل جاهز ومكان متاح... والمعرقل واحد
الملف المالي لا يشكّل عائقاً، إذ يتوافر تمويل يقارب خمسة ملايين دولار مخصّص للمشروع، منها مليونا دولار من هبة البنك الدولي قد تضيع إن لم تُستخدم قبل نهاية العام. كما تمّ تجهيز مبنى داخل حرم الجامعة اللبنانية في الحدث، ليكون مقراً للمختبر، بإدارة مشتركة بين الوزارة والجامعة عبر الوكالة الوطنية للدواء.

وبموجب الاتفاق، تحصل وزارة الصحة على 60% من العائدات، فيما تستفيد الجامعة من 40% وتؤمن الكادر الأكاديمي والفني. هذه الشراكة، وفق ناصر الدين، “ستحوّل المختبر إلى ركيزة وطنية لضبط جودة الدواء ومكافحة الغش”، مؤكداً أن “أي دواء لن يدخل السوق اللبناني بعد الآن من دون شهادة المختبر المركزي”.


لوبي الأدوية في مواجهة الإصلاح
لكن هذه الخطوة تواجه مقاومة شرسة من اللوبي المتحكم بقطاع الدواء، الذي يرى في المختبر تهديداً مباشراً لمصالحه. فوجود رقابة علمية صارمة يعني نهاية التلاعب بالأسعار، وكشف الأدوية الوهمية، وضبط عمليات الاستيراد غير الشفافة التي وفّرت أرباحاً هائلة لسنوات.

ويرى متابعون أن بعض الاعتراضات الحكومية لا علاقة لها بالتخطيط أو بالأولويات، بل بمحاولة فرملة إنجاز يحسب لوزارة الصحة والجامعة اللبنانية، أو لحماية مصالح خاصة متضررة من الشفافية.


معركة صحة لا تُؤجَّل
من الناحية التقنية، سيعيد المختبر تنظيم سوق الدواء وفق معايير دولية، تشمل إعادة فحص كل الأدوية المسجلة سابقاً، وإخضاعها لاختبارات دورية. وهو ما سيعيد الثقة إلى السوق اللبناني ويحدّ من الكوارث الصحية الناتجة عن الأدوية المغشوشة.

غير أن الخوف ما زال قائماً من قدرة “اللوبي” على تعطيل المشروع في اللحظات الأخيرة، سواء عبر المماطلة الإدارية أو عبر الضغط السياسي داخل مجلس الوزراء. فإحياء المختبر المركزي لم يعد مجرد ملف تقني، بل معركة بين مافيا المال وصحة المواطن.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 8