دخل الملف القضائي المرتبط بجرائم الحرب والانتهاكات التي ارتكبها نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد مرحلة جديدة من الملاحقة، بعدما وجّهت فرنسا طلباً رسمياً إلى السلطات اللبنانية لتعقب واعتقال عدد من كبار الضباط والمسؤولين الأمنيين السابقين في النظام البائد، يُعتقد أنهم يقيمون حالياً داخل الأراضي اللبنانية بطرق سرية أو عبر هويات مزورة.
الاستنابة القضائية الفرنسية، التي وصلت إلى بيروت عبر القنوات الدبلوماسية، تتضمن طلباً صريحاً من القضاء اللبناني بالتحري عن أماكن وجود ثلاثة من أبرز رموز النظام السابق:
اللواء جميل الحسن، الرئيس الأسبق لشعبة المخابرات الجوية،
اللواء علي مملوك، الرئيس السابق لمكتب الأمن القومي،
واللواء عبد السلام محمود، المدير الأسبق لفرع التحقيق في المخابرات الجوية.
وتطالب باريس بتوقيفهم وتسليمهم إلى القضاء الفرنسي، على خلفية قضايا تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتُكبت خلال فترة حكم الأسد، من بينها مقتل وتعذيب مواطنين فرنسيين من أصول سورية داخل مراكز احتجاز النظام.
جرائم لا تسقط بالتقادم
التحرك الفرنسي يأتي استكمالاً لتحقيقات مفتوحة منذ عام 2018، شملت سلسلة من القضايا المرفوعة من قبل منظمات حقوقية وضحايا سوريين يحملون الجنسية الفرنسية. وقد أصدر القضاء الفرنسي في وقت سابق مذكرات توقيف غيابية بحق بشار الأسد نفسه، وعدد من كبار مساعديه، بتهم تتعلق باستخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين في الغوطة عام 2013، وارتكاب جرائم تعذيب وقتل خارج نطاق القانون.
وبعد سقوط النظام السوري القديم في كانون الأول 2024، تسارعت وتيرة التحركات الدولية لملاحقة المتورطين في تلك الجرائم، إذ بات كثير من مسؤولي النظام السابق في حالة فرار أو يعيشون متخفين في دول الجوار، خصوصاً في لبنان، الذي شكّل منذ انهيار النظام ملاذاً مؤقتاً للعديد من الشخصيات الأمنية والاقتصادية المقربة من الأسد.
تحقيقات لبنانية تحت الضغط الفرنسي
في بيروت، أكدت مصادر قضائية أن النيابة العامة كلفت شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي بفتح تحقيق فوري في القضية، يشمل رصد أماكن الإقامة المحتملة للمطلوبين، ومتابعة أي نشاط مالي أو اتصالات مرتبطة بهم. وتشير المعلومات إلى أن السلطات الفرنسية زوّدت لبنان ببيانات دقيقة تتضمن أرقام هواتف لبنانية يُعتقد أنها على تواصل دائم مع ضباط النظام المخلوع، إلى جانب تحركات مالية مشبوهة تخص شركات واجهات مرتبطة بهم.
ويُتوقع أن تواجه السلطات اللبنانية ضغوطاً متزايدة من باريس ومن الاتحاد الأوروبي للمضي في تنفيذ الطلب القضائي، خصوصاً أن فرنسا تعتبر هذه الملفات “جرائم لا تسقط بالتقادم” وتشكل التزاماً قانونياً وأخلاقياً على كل الدول الموقعة على اتفاقيات مناهضة التعذيب.
مذكرات دولية سابقة
يُذكر أن الإنتربول كان قد عمّم في وقت سابق مذكرات توقيف دولية بحق عدد من رموز النظام المخلوع بناءً على طلبات من القضاءين الأميركي والفرنسي. وتشمل هذه المذكرات اللواءين مملوك والحسن، حيث يُتهمان بالإشراف على عمليات تعذيب وقتل ممنهجة في فروع المخابرات السورية خلال سنوات الحرب.
وفي أعقاب سقوط الأسد، أكدت مصادر حقوقية لبنانية أن عدداً من ضباطه وكبار رجال الأعمال المرتبطين به دخلوا الأراضي اللبنانية مستخدمين جوازات سفر مزورة أو بغطاء من شخصيات سياسية نافذة، وأن بعضهم يمتلك عقارات وشركات واجهات في بيروت وطرابلس والبقاع.
دمشق الجديدة تراقب بصمت
في المقابل، تلتزم الحكومة السورية الصمت إزاء هذه التطورات، مكتفياً بالتأكيد أن القضاء السوري المستحدث “يتعاون مع أي جهة دولية تسعى لمحاسبة مرتكبي الجرائم في عهد النظام السابق”. وتقول مصادر سياسية في دمشق إن الحكومة الجديدة لا تمانع تسليم المطلوبين للعدالة الدولية، باعتبارهم “رموز عهد دموي لا يمثل الدولة السورية الحالية”.
ويُنظر إلى التحرك الفرنسي على أنه خطوة جديدة نحو إغلاق ملف الجرائم التي ارتُكبت خلال سنوات الحرب في سوريا، وترسيخ مبدأ المساءلة الدولية، بعد عقد كامل من الإفلات من العقاب.