سوريا الجديدة والأقليات: تحديات الثقة وبناء الوطن الجامع

2025.11.02 - 09:47
Facebook Share
طباعة

 عاشت سوريا لعقود طويلة تحت نظام حكم فرض القمع على الجميع، بما في ذلك الأقليات التي كانت مرتبطة بالسلطة بشكل مباشر أو عبر مصالح ظرفية مؤقتة. هذا الواقع أعاد تشكيل مشاعر الخوف لدى تلك المكونات، إذ كانت مضطرة للبحث عن وسائل لحماية نفسها ومكتسباتها، سواء عبر التحالف مع أطراف معينة، أو تشكيل مجموعات مستقلة، أو المطالبة بامتيازات خاصة لمناطقها، أو حتى التفكير بالاستعانة بأطراف خارجية لضمان بقائها وأمنها.

ومع انهيار النظام السابق، وجدت الأقليات نفسها أمام واقع أكثر تعقيدًا، حيث تراكمت الهواجس والمخاوف، وبرزت الحاجة الملحة لإعادة بناء الثقة في الدولة الجديدة، وهي ثقة تأثرت بشدة خلال سنوات الحكم السابق. وفي ظل هذا السياق، أصبح من الضروري للسلطة الحاكمة الجديدة أن تعترف بمخاوف هذه المكونات وأن تسعى إلى تهدئتها عبر سياسات شفافة ومنفتحة، تتيح إشراك جميع الأطراف في القرار الوطني وتعزز شعورهم بالاندماج والأمان.


دور السلطة الجديدة ومسؤولية تبديد المخاوف
اليوم، تواجه الحكومة الجديدة في سوريا تحديًا مزدوجًا: ليس فقط الحفاظ على الاستقرار الأمني والسياسي، بل أيضًا العمل على إزالة حالة الخوف المتراكمة لدى الأقليات. ويُتحقق ذلك من خلال إشراك المكونات المختلفة في صنع القرار، وفتح قنوات التواصل مع الفئات المتنوعة، ودمجهم في مؤسسات الدولة، بما يعيد الثقة بين المجتمع والسلطة.

وقد بدأت الحكومة خطوات فعلية في هذا الاتجاه، أبرزها الاستعانة بشخصيات كانت جزءًا من المشهد السابق، لكنها تحظى بقبول لدى بعض الأقليات. هذه الشخصيات تشكل جسورًا للثقة، وتعمل على ربط السلطة الجديدة بالأقليات، وهو مؤشر على جدية الحكومة في تجاوز الماضي المؤلم وبناء مستقبل مشترك.

غير أن المشهد يبقى معقدًا، إذ إن السلطة نفسها لا تزال في مرحلة تأسيسية، تحاول خلالها ضبط عمل الفصائل وتحويل عقلية "الفصيل" إلى عقلية "الوطن". وفي غياب التنظيم الصارم والهيكلية المؤسسية المتماسكة، تصبح أي أزمة طارئة فرصة لانفلات الوضع، كما ظهر في محاولات بعض الأطراف دفع الحكومة إلى ردود فعل متسرعة وغير محسوبة، سواء في مناطق الساحل أو عبر النزاعات الداخلية في محافظة السويداء.


الضغوط وأثرها على الأقليات
أسهمت هذه الضغوط في ردود أفعال مبالغ فيها، ما أدى إلى تعميق مخاوف الأقليات ودفعها إلى الانغلاق أكثر داخل "قوقعتها" الخاصة. ويبدو أن طريق الخروج من هذا الانكماش يمر عبر تحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل، إذ يمكن أن يشغل الناس في مشاريع بناء وإنتاج ويبعدهم عن الانخراط في التوترات والنزاعات، مما يسهم في دمجهم تدريجيًا داخل المجتمع، ويعزز الاستقرار السياسي والاجتماعي في الوقت نفسه.


الحاجة إلى طمأنة وضمانات حقيقية
على السلطة الجديدة أن تعطي أولوية قصوى لطمأنة المكونات المختلفة، ويمكن أن يشمل ذلك الاستعانة بوساطات وضمانات عربية ودولية. فإشراك الدول العربية في توفير مظلة أمان ليس عيبًا، بل قد يكون ضرورة في مرحلة حساسة كهذه، حيث يساهم في تهدئة الهواجس ومنح الجميع شعورًا بالاطمئنان.

كما يمكن الاعتماد على شخصيات اجتماعية ودينية بارزة، مثل شيوخ العشائر أو رجال الدين، للعب دور الوسيط بين السلطة والأقليات، بهدف تعزيز الثقة وبناء جسور التعاون، حتى يرسخ مفهوم الوطنية ويهيمن القانون على الجميع.


الاستقرار الاقتصادي كمدخل للاستقرار السياسي
تحاول دول الخليج دعم سوريا عبر مشاريع اقتصادية ضخمة تهدف إلى إعادة ترميم البنية التحتية وتأمين مستلزمات الحياة الأساسية. فالاستقرار الاقتصادي، عبر توفير فرص عمل وتحسين مستوى المعيشة، يعد مدخلاً حيويًا لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، لأنه يعيد إشغال الناس في البناء والتنمية بدل الانغماس في الخوف أو الانقسامات.

مع انتصار الفكر الوطني وترسخ دولة القانون، ستختفي القوقعة التي عزلت الأقليات عن بعضها، لتبدأ مرحلة جديدة يكون عنوانها الوطن الجامع لكل أبنائه، بلا تمييز أو استثناء.


خلاصة التحديات والحلول الممكنة
المشهد الراهن في سوريا معقد، إذ تتشابك رواسب الماضي مع تحديات الحاضر. الطريق نحو تجاوز هذه المرحلة يبدأ بالاعتراف بمخاوف الأقليات والسعي الجاد لطمأنتها عبر سياسات شفافة وممارسات حقيقية وضمانات داخلية وخارجية. ويعد الاستقرار الاقتصادي وإشراك كل المكونات في مؤسسات الدولة أمرين أساسيين لإعادة بناء الثقة وتحقيق الوحدة الوطنية.

وعندما تنتصر سيادة القانون وتترسخ فكرة الوطن الجامع، ستزول القوقعة التي فصلت المكونات عن بعضها، لتبدأ مرحلة جديدة تسود فيها العدالة والمساواة، ويصبح الانتماء للوطن هو الرابط الوحيد بين جميع أبنائه.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 7