في الأيام القليلة الماضية، عادت الدبلوماسية الاقتصادية السورية إلى الواجهة بإيقاع غير مسبوق، مع تحرّكات متزامنة لوزير المالية ووزير الاقتصاد والصناعة وحاكم مصرف سوريا المركزي نحو مؤسسات تمويل دولية وهيئات تنظيمية وأسواق سياسات.
هذا المسار لا ينفصل عن الدبلوماسية السياسية، بل يوازيها ويكملها؛ فالدبلوماسية السياسية تفاوض على مساحات الحركة والاعتراف، في حين تختبر الدبلوماسية الاقتصادية قابلية هذه المساحات للتحول إلى قنوات تمويل، وممرات تجارة، وأطر امتثال مصرفي تسمح بتخفيض كلفة التعامل مع العالم.
حيث تبحث السياسة عن تخفيف القيود وإعادة التموضع، تعمل الدبلوماسية الاقتصادية على هندسة أدوات عملية من خلال منصات مدفوعات إقليمية، ترتيبات مساعدة فنية، ومسارات إصلاح مالي ونقدي، وتدابير امتثال تفتح الطريق أمام التدفقات المشروعة.
السياق الداخلي والخارجي
تبرز أهمية هذه اللحظة في تزامن الحاجة الداخلية المتمثلة بفجوات تمويل بالعملة الصعبة، وضغوط على الأسعار وسلاسل الإمداد، وتحديات في بيئة الأعمال، مع نافذة خارجية قد تسمح بترتيبات تدريجية إذا تمت إدارتها بحوكمة عالية وشفافية بيانات.
وبالتالي، تصبح اللقاءات الحالية اختباراً مزدوجاً: قدرة المؤسسات السورية على تحويل الانفتاح السياسي النسبي إلى مكاسب اقتصادية ملموسة، وقدرة الشركاء الدوليين على بناء مسارات تعاون تحكمها القواعد والامتثال، بدلاً من الاكتفاء بالإشارات الرمزية.
خريطة اللقاءات الأخيرة
18 تشرين الأول/أكتوبر 2025: عقد وزير المالية محمد يسر برنية اجتماعاً ثنائياً في واشنطن مع مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون الشرق الأوسط إريك ماير، لبحث دعم إصلاحات المالية العامة، بناء القدرات التقنية، وتوسيع قنوات التعاون المؤسسي، ضمن الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين.
برنية أجرى لقاءات إضافية مع البنك الدولي ومؤسسات مهنية معنية بالحوكمة المالية لاستكشاف مسارات تمويل ومساعدة فنية مرتبطة بالإصلاحات وتحسين شفافية البيانات الحكومية.
17–18 تشرين الأول/أكتوبر 2025: أجرى وزير الاقتصاد والصناعة نضال الشعار سلسلة لقاءات سياسية واقتصادية في واشنطن، شملت وزارة التجارة الأميركية والكونغرس، بهدف تيسير الاستثمار وتخفيف القيود التجارية والجمركية وربط الانفتاح السياسي بقنوات تعاون اقتصادي عملية.
17 تشرين الأول/أكتوبر 2025: أعلن حاكم مصرف سورية المركزي عبد القادر الحُصْرية الاتفاق على انضمام سوريا إلى منصة "بُنى" للمدفوعات عبر الحدود التابعة لصندوق النقد العربي، ما يضع النظام المالي السوري ضمن بنية تسوية إقليمية، ويخفض كلفة التحويلات ومخاطر المقاصة.
نتائج اللقاءات حسب المسارات
المصرف المركزي:
الاتفاق على منصة "بُنى" للمدفوعات عبر الحدود، ما يتيح ربط المصارف السورية بمنظومة تسوية إقليمية أقل كلفة وأكثر امتثالاً.
مذكرة تفاهم مع شركة "ماستركارد" لتطوير منظومة الدفع الرقمي محلياً، مؤشراً إلى تعاون تقني وسياسي مستقبلي.
وزارة المالية:
تموضع مؤسسي أكثر من مكاسب تمويلية فورية، مع فتح قنوات متابعة مع فرق صندوق النقد والبنك الدولي حول ملفات الإصلاح المالي (إدارة الدين، كفاءة الإنفاق، توسيع القاعدة الضريبية) وبرامج المساعدة الفنية.
وزارة الاقتصاد والصناعة:
نتائج "استكشافية" تهدف إلى تسهيل التجارة والاستثمار، وجسر الفجوة بين الانفتاح السياسي والإجراءات العملية.
لم تظهر حتى الآن اتفاقات ملزمة علناً، لكن اللقاءات فتحت مسارات متابعة تتعلق بمناخ الأعمال، تبسيط إجراءات الاستيراد، الشفافية التنظيمية، وحوافز صناعية.
الإطار الاستراتيجي للدبلوماسية الاقتصادية
تعمل التحركات الأخيرة ضمن تقاطع مسارين متوازيين:
المسار السياسي الذي يختبر إعادة التموضع والانخراط الدولي.
المسار الاقتصادي الذي يحول إشارات السياسة إلى أدوات عملية لتخفيض كلفة التعامل مع العالم.
الاجتماعات مع مؤسسات التمويل الدولية ووزارات المالية والتجارة هي بمثابة بنية تحتية للعلاقات، تمنح سوريا عناوين اتصال مؤسسية وتعيد إدماجها تدريجياً في سلاسل الامتثال والتمويل، وتتيح اختبار ترتيبات تسوية ومدفوعات أقل كلفة وأكثر شفافية.
الأهمية المركبة للتحركات
كل تقدم صغير في الامتثال أو تبادل البيانات المالية والنقدية يفتح نافذة أوسع على دعم فني وتمويلي، ويخفض قسط المخاطر الذي يدفعه المستورد والمصرف والمستثمر.
أي تعثر في الإصلاحات يعكس فوراً على كلفة التمويل وإمكان الوصول إلى قنوات الدفع.
الاجتماعات مع جهات تشريعية وتنفيذية أجنبية تقلص فجوة الثقة التنظيمية، ما يسهل مرور الاعتمادات وتأمين الشحن وإدارة المخاطر.
تحليل الخبراء
يقول الباحث الاقتصادي الدكتور خالد تركاوي:
"جرى العمل على مسارين: الدبلوماسية السياسية التي تشمل رفع العقوبات، والدبلوماسية الاقتصادية التي تعمل على تطبيق هذه الإشارات فنياً عبر وزارة الاقتصاد والصناعة والبنك المركزي".
خلاصة المرحلة
الدبلوماسية الاقتصادية السورية لم تعد مجرد واجهة مكمّلة، بل صارت مساراً اختبارياً لجدية الانفتاح السياسي وقدرته على توليد مكاسب ملموسة.
النجاح هنا يقاس بـ:
حجم التدفقات الرسمية عبر قنوات شفافة.
كلفة فتح الاعتمادات وتسوية المدفوعات.
تحسن زمن التخليص وسلاسل الإمداد.
استقرار نسبي في سوق الصرف والأسعار.
أما على المستوى المؤسسي، فالأولويات تشمل:
تحديث البنية الوطنية للمدفوعات وتوسيع الشمول المالي.
شفافية بيانات المالية العامة وإدارة الدين.
حوكمة رقابية متسقة مع معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
النجاح النهائي يتطلب توازن دقيق بين الإصلاحات المحلية والانفتاح الدولي التدريجي، لتحويل الدبلوماسية الاقتصادية من "نافذة أمل" إلى مسار تراكمي يخفض كلفة المعيشة ويعيد وصل الشركات السورية بأسواق الإقليم والعالم.