يشهد السودان موجة نزوح جديدة وصفتها المنظمات الإنسانية بأنها "الأكبر منذ بداية الحرب"، بعد سقوط مدينة الفاشر – عاصمة شمال دارفور – في قبضة قوات الدعم السريع. ومع تصاعد التقارير عن مجازر وانتهاكات بحق المدنيين، تحولت طرق الهروب من المدينة إلى "ممرات موت"، في وقت تتحدث فيه مصادر طبية عن أوضاع إنسانية متدهورة وانعدام شبه كامل للغذاء والمياه والخدمات الصحية.
وفق بيان شبكة أطباء السودان الصادر اليوم السبت، وصل 642 نازحاً من الفاشر إلى منطقة الدبة في الولاية الشمالية، بعد رحلة وصفتها الشبكة بأنها "شاقة ومحفوفة بالمخاطر".
وأكد البيان أن النازحين "يعيشون أوضاعاً إنسانية مأساوية في ظل غياب المأوى ونقص الغذاء والمياه الصالحة للشرب والخدمات الطبية الأساسية"، مشيراً إلى أن بين الفارين نسبة مرتفعة من الأطفال والنساء وكبار السن الذين يعانون من الجوع والإنهاك الشديد.
وأضافت الشبكة أن هذه الأسر لجأت إلى الشمال بحثاً عن الأمان، لكنها تواجه الآن "تحديات معيشية تفوق قدرة المجتمعات المستضيفة على التحمل"، وسط توقعات بتضاعف أعداد الوافدين خلال الأيام المقبلة مع استمرار تدهور الأوضاع في دارفور.
دعت شبكة أطباء السودان السلطات المحلية والمنظمات الدولية إلى تحرك عاجل لتقديم المساعدات الطبية والغذائية والإيوائية، مشيرة إلى أن "الاستجابة الفورية قد تنقذ آلاف الأرواح التي يهددها الجوع والمرض والخوف".
وفي السياق ذاته، أكدت تنسيقية النازحين في دارفور لقناتي "العربية" و"الحدث" أن أكثر من 36 ألف شخص فروا من الفاشر خلال الأيام الأخيرة فقط، محذرة من كارثة إنسانية متفاقمة.
وطالبت التنسيقية المجتمع الدولي بالضغط على طرفي الصراع لوقف إطلاق النار فوراً وفتح ممرات إنسانية آمنة لنقل المساعدات إلى المدنيين المحاصرين.
تأتي هذه التطورات بعد أن تمكنت قوات الدعم السريع، المنخرطة في حرب دامية مع الجيش السوداني منذ أبريل 2023، من السيطرة على مدينة الفاشر في أواخر أكتوبر 2025.
وسارعت آلاف العائلات إلى الفرار شمالاً وغرباً هرباً من الاشتباكات وأعمال العنف الواسعة التي تلت سقوط المدينة، وسط تقارير عن عمليات قتل ونهب وحرق للمنازل.
صور الأقمار الصناعية التي نشرتها وكالات دولية أظهرت مساحات واسعة من الدمار في أحياء سكنية داخل الفاشر، بينما تحدث شهود عن "اختفاء قسري وعمليات انتقامية" نفذتها عناصر الدعم السريع بحق مدنيين متهمين بالتعاون مع الجيش.
المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك أعرب عن "قلق بالغ" إزاء تدهور الوضع الإنساني، داعياً إلى استعادة الاتصالات وفتح ممرات آمنة للمدنيين الفارين من القتال.
وأضاف أن تقارير ميدانية تشير إلى أن النازحين يتعرضون للاختطاف والابتزاز أثناء محاولتهم مغادرة المدينة، محذراً من أن الأوضاع "خرجت عن السيطرة تماماً في شمال دارفور".
بدورها، أكدت الأمم المتحدة أن الوضع في السودان "ما زال مروعاً"، وأن الهجمات المتكررة على المدنيين وصعوبة وصول المساعدات جعلت من شمال دارفور "منطقة منكوبة بالكامل".
اندلع القتال بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) في أبريل 2023، وتحول سريعاً إلى حرب داخل المدن امتدت من الخرطوم إلى دارفور وكردفان والولايات الشرقية.
وخلف الصراع أكثر من 15 ألف قتيل بحسب تقديرات الأمم المتحدة، فيما تجاوز عدد النازحين داخلياً 12 مليون شخص، وهو أكبر نزوح داخلي في العالم حالياً.
ويرى مراقبون أن سقوط الفاشر يمثل منعطفاً حاسماً في مسار الحرب، إذ يمنح الدعم السريع سيطرة شبه كاملة على إقليم دارفور، ما قد يفتح الباب أمام إعادة رسم خريطة السيطرة الميدانية في السودان.
بينما يتواصل النزوح من الفاشر بوتيرة متسارعة، تتزايد التحذيرات من انهيار شامل للمنظومة الإنسانية في دارفور ما لم يتحرك المجتمع الدولي سريعاً لفرض وقف إطلاق النار وضمان وصول الإغاثة إلى المدنيين.
ومع اتساع رقعة المعاناة وتراجع الأمل في الحل السياسي، تبدو دارفور اليوم على حافة مجاعة كبرى، في مشهد يعيد إلى الأذهان مأساة الإقليم قبل عقدين، حين كانت الكارثة تُروى بالأرقام والدماء.