في سابقةٍ نادرة، وجّه الرئيس اللبناني جوزيف عون أوامره إلى قيادة الجيش بـ«التصدي لأي توغل إسرائيلي» في الأراضي الجنوبية المحررة، بعد حادثة بليدا التي شهدت فجر الخميس عملية توغل برية نفذتها قوة إسرائيلية خاصة، وانسحبت بعد ساعتين. القرار الذي وصفه ناشطون بأنه «جريء ومنتظر منذ سبعين عاماً»، أعاد النقاش الداخلي حول موقع الجيش في معادلة الردع، ودور الدولة في ضبط الحدود الجنوبية وسط تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة.
توغل محدود.. وتداعيات مفتوحة
وفق المعلومات الميدانية، دخلت قوة إسرائيلية بلدة بليدا الحدودية في الساعات الأولى من الصباح، مستهدفة أحد المباني البلدية. وقد أدى الهجوم إلى مقتل موظف بلدي، فيما ادّعى الجيش الإسرائيلي أنه كان «عنصراً في حزب الله» يشكّل تهديداً لقوته المهاجمة.
وبينما التزمت الأمم المتحدة الصمت، أصدرت الرئاسة اللبنانية بياناً اعتبرت فيه ما جرى «انتهاكاً خطيراً للسيادة الوطنية»، مشدّدة على أن الجيش «مكلّف بالتصدي لأي خرق بري».
مصادر عسكرية لبنانية أكدت أن القرار الرئاسي «يمنح الجيش صلاحية التحرك الميداني ضمن قواعد الاشتباك القائمة، دون الدخول في مواجهة مفتوحة»، ما يعني عملياً تعزيز الانتشار الميداني ومراقبة نقاط التماس، بالتوازي مع اتصالات دبلوماسية عاجلة لاحتواء التوتر.
تفاعل داخلي ورسائل رمزية
قرار عون أحدث تفاعلاً واسعاً في الداخل اللبناني، واعتُبر من قبل شريحة كبيرة من اللبنانيين «استعادة لهيبة الدولة» بعد عقود من الحذر الرسمي في التعامل مع الانتهاكات الإسرائيلية.
اللافت أن المواقف الشعبية، خصوصاً في القرى الحدودية، بدت متقدمة في لهجتها، إذ عبّر كثيرون عن استعدادهم للوقوف خلف الجيش أو حتى تشكيل «مقاومة شعبية داعمة»، في ظل تصاعد القصف الجوي الإسرائيلي الذي طال مناطق عدة في الجنوب خلال الأسابيع الأخيرة.
هذا المزاج الشعبي يضع المؤسسة العسكرية أمام اختبار مزدوج: الحفاظ على التماسك الوطني من جهة، وتجنّب الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة من جهة أخرى، في وقتٍ تشهد فيه البلاد واحدة من أعمق أزماتها الاقتصادية والسياسية منذ اتفاق الطائف.
يأتي توجيه الرئيس اللبناني جوزيف عون في لحظة إقليمية بالغة الحساسية، تتقاطع فيها خطوط النار والسياسة على نحوٍ غير مسبوق منذ سنوات. فجنوب لبنان يعيش منذ أسابيع على وقع تصعيد متدرّج بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، بعد سلسلة من الاغتيالات الميدانية التي طالت قيادات بارزة في الحزب داخل لبنان وسوريا، وترافقت مع هجمات إسرائيلية جوية مكثفة على البنى التحتية المدنية في الجنوب والبقاع.
هذه العمليات المتلاحقة دفعت الحزب إلى إعادة تموضع عسكري حذر، مع توجيه رسائل نارية عبر قصفٍ محدود وردّ محسوب، لتثبيت معادلة «الرد بالمثل» دون الانزلاق إلى حرب شاملة، وهو توازن هشّ يعتمد على دقّة الحسابات الإقليمية أكثر من الميدان نفسه.
في المقابل، تواجه الحكومة الإسرائيلية ضغطاً داخلياً متزايداً من التيار اليميني المتشدّد الذي يطالب الجيش بإعادة «رسم قواعد الاشتباك» على الحدود اللبنانية، بذريعة أن الردع الإسرائيلي تآكل خلال الأشهر الماضية.
وسائل الإعلام العبرية نقلت عن مسؤولين عسكريين قولهم إن الجيش «لن يسمح بتحول الجنوب اللبناني إلى ملاذٍ آمن للمجموعات المسلحة»، في إشارة إلى تصاعد التحركات الميدانية لحزب الله.
هذا الخطاب التصعيدي يخدم في آنٍ واحد أجندة سياسية داخلية في إسرائيل، ويتيح للقيادة هناك توجيه الأنظار بعيداً عن أزماتها الداخلية المتفاقمة — ما يجعل لبنان مرّة أخرى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية.
أما داخلياً، فـلبنان يعيش مأزقاً مركباً بين الحاجة إلى تثبيت السيادة الوطنية على أراضيه، والخشية من أن يؤدي أي تصعيد إلى حرب جديدة لا يملك البلد مقوّمات مواجهتها.
الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد منذ 2019 ما زالت تحدّ من قدرة الجيش على التسلّح والتجهيز، فيما تستمر الانقسامات السياسية في شلّ مؤسسات القرار.
وبينما يرى البعض في موقف الرئيس عون محاولة لاستعادة هيبة الدولة وإعادة الاعتبار لدور الجيش، يعتبر آخرون أن التصدي لأي توغل إسرائيلي «شعار رمزي» أكثر منه خياراً عملياً في ظلّ موازين القوى الحالية.
ومع ذلك، يبقى توجيه عون بمثابة رسالة مزدوجة: أولاً إلى الداخل اللبناني بأن السيادة لا تُجزّأ، وثانياً إلى الخارج بأن بيروت لم تعد قادرة على تجاهل الانتهاكات المتكرّرة للحدود دون ردّ سياسي أو ميداني.
مصادر سياسية مطّلعة رأت أن خطوة عون «تحمل رمزية مزدوجة»: فهي من جهة تأكيدٌ على دور الجيش كضامن للسيادة، ومن جهة أخرى رسالة إلى الخارج بأن لبنان الرسمي لا يمكنه البقاء في موقع المتفرّج على انتهاكات تتكرر منذ أشهر.
الجنوب بين الرسالة والتحذير
بين قرار عون وتحركات الجيش، تبدو بيروت كمن يوازن على حافة السكين، فالرسالة الموجهة لإسرائيل واضحة: السيادة لم تعد ورقة صامتة.
لكنّ لبنان الرسمي يدرك في المقابل أن أي خطأ ميداني قد يجرّ البلاد إلى مواجهة تتجاوز قدراته الراهنة.
وهكذا، يبقى الجنوب ساحة اختبار دائم بين الردع والمغامرة، وبين الدولة والميدان، فيما تنتظر بيروت أن تُترجم «جرأة القرار» إلى واقعٍ لا يعيد إشعال الحرب، بل يعيد تثبيت الحق.