لا تزال الأرض في سوريا تبوح بأسرار الحرب الطويلة، فكلما انحسر الركام في منطقة، برزت تحته فصول جديدة من الألم.
خلال شهر تشرين الأول الجاري، كُشف عن عدد من المقابر الجماعية في محافظات حماة وريف دمشق وحمص، تضمّ رفات عشرات المدنيين الذين قضوا خلال السنوات السابقة، في مشهد يعيد إلى الواجهة واحدة من أكثر الملفات تعقيدًا وغموضًا في البلاد: ملف المفقودين وضحايا الانتهاكات.
تؤكد تقارير ميدانية أن المقابر التي جرى اكتشافها حديثًا ليست الأولى من نوعها، لكنها الأكثر دلالة في الفترة الأخيرة، إذ كشفت عن طبيعة الجرائم التي ارتُكبت بحق مدنيين في مراحل مختلفة من النزاع، بعضهم نساء وأطفال، دفنوا على عجل، وغابت أسماؤهم عن السجلات الرسمية، بينما بقيت ذكراهم حاضرة في ذاكرة أسر لم تتوقف يومًا عن السؤال.
في محافظة حماة، عُثر على مقبرة صغيرة في ريفها الشرقي في الثامن من تشرين الأول، تحتوي على رفات شخصين مجهولي الهوية قرب قرية تل جديد. تشير المعلومات إلى أنهما قُتلا ثم أُحرقت جثتاهما قبل دفنهما في مكان معزول بجانب الطريق العام، في أسلوب يُحاكي عمليات التصفية التي شهدتها المنطقة في ذروة الصراع.
أما في ريف دمشق، فقد عُثر على مقبرتين جماعيتين في مناطق كانت مسرحًا لمعارك عنيفة خلال السنوات الماضية. الأولى في تل الصوان شرقي دوما، اكتُشفت في الحادي والعشرين من تشرين الأول، واحتوت على نحو عشرين جثة، يُرجح أن معظمها لنساء وأطفال.
المشهد الذي واجه فرق الكشف كان صادمًا: جثث بلا ثياب، مطروحة في حفرة واحدة، في مشهد يعيد الذاكرة إلى سنوات القصف والحصار والانتهاكات التي طالت المدنيين هناك.
بعد أسبوع، وتحديدًا في التاسع والعشرين من تشرين الأول، تم العثور على رفات سبعة أشخاص داخل منزل مهجور في حي القابون بريف دمشق، وهي منطقة شهدت معارك قاسية وعمليات تهجير واسعة. الرفات نُقلت إلى الطبابة الشرعية، دون إعلان رسمي حول هويات الضحايا، ما فتح باب التكهنات حول كونهم مدنيين قضوا خلال الحصار أو نتيجة عمليات ميدانية غير معلنة.
وفي محافظة حمص، عاد شبح المقابر الجماعية ليطلّ مجددًا. ففي منطقة القريتين شرقي المحافظة، اكتُشفت في 21 تشرين الأول رفات ثمانية مدنيين، بينهم ثلاثة أطفال وأربع نساء. العظام كانت متناثرة في العراء قرب تلٍّ استراتيجي كان يُستخدم سابقًا كنقطة عسكرية، في مشهد مؤلم يختصر سنوات من الانتهاكات التي طُمست أدلتها مع مرور الوقت.
تثير هذه الاكتشافات تساؤلات كبرى حول مصير آلاف المفقودين الذين لا تزال عائلاتهم تنتظر أي خبر عنهم. فمع كل مقبرة جديدة، يُعاد فتح جرح قديم لم يلتئم بعد، ويُطرح السؤال ذاته: من سيحاسب؟
الجهات المحلية لم تُصدر حتى الآن بيانات رسمية تشرح ظروف اكتشاف هذه المقابر أو الإجراءات المتخذة لتحديد هوية الضحايا. بينما يرى مراقبون أن استمرار الصمت الرسمي يعكس رغبة في تجنّب فتح ملفات الماضي، خاصة تلك التي توثق انتهاكات جسيمة ارتُكبت خلال سنوات الحرب.
ويؤكد ناشطون حقوقيون أن المقابر الجماعية ليست مجرد مواقع دفن، بل شواهد على حقبة من الانتهاكات الممنهجة التي طالت المدنيين، مطالبين بفتح تحقيقات مستقلة بإشراف أممي لتحديد هوية الضحايا ومحاسبة المسؤولين عن جرائم القتل والإخفاء القسري.
ومع كل اكتشاف جديد، يتضح أن الحرب في سوريا لم تنتهِ بعد، وأن فصولها المظلمة ما زالت تُروى بصمت من تحت التراب، حيث تتحدث العظام حين يصمت الجميع.