مع اقتراب فصل الشتاء، تزداد معاناة السوريين العائدين إلى مدنهم المدمرة أو العالقين في المخيمات بانتظار عودةٍ طال أمدها. ورغم مرور أشهر على سقوط النظام السابق، ما تزال آثار الحرب الطويلة تُلقي بظلالها الثقيلة على حياة المدنيين في معظم المحافظات، حيث يعيش الملايين بين أنقاض المنازل أو تحت خيام لا تقي من برد ولا حر.
في مدينة دير الزور، التي كانت يومًا مركزًا حيويًا على ضفاف الفرات، تبدو الصورة أكثر قسوة. فالأحياء المدمرة بنسبة تصل إلى 85 بالمئة تقف شاهدة على حجم الكارثة. العائدون إلى المدينة بعد سنوات من النزوح يواجهون واقعًا مأساويًا يتمثل في غياب شبه تام للبنية التحتية والخدمات الأساسية. لا ماء ولا كهرباء ولا صرف صحي، فيما تغيب مشاريع إعادة الإعمار كليًا رغم الوعود المتكررة.
ويعيش معظم السكان بين جدران مهدّمة أو في بيوتٍ تفتقر إلى النوافذ والأبواب، بينما تعصف موجات الغلاء بالأسواق، في ظل انعدام فرص العمل والدخل، ما يجعل الاستعداد لفصل الشتاء مهمة شبه مستحيلة. ومع غياب الدعم الإنساني الفعّال، يبقى الأهالي أمام خيارين أحلاهما مرّ: مواجهة البرد في بقايا منازلهم أو العودة إلى حياة الخيام.
في المقابل، لا يختلف المشهد كثيرًا في محافظة الرقة، حيث لا تزال آلاف العائلات المهجرة تعيش في مخيمات مؤقتة منذ سنوات. وتضم المحافظة عشرات المخيمات الرسمية التي تأوي نازحين من دير الزور وإدلب وحماه وحمص وحلب، فضلًا عن مراكز إيواء داخل المدارس والملاعب في مدينة الطبقة ومحيطها.
تفتقر هذه المخيمات إلى أبسط مقومات الحياة — من مياه الشرب إلى الرعاية الصحية — بينما لا تتوفر أي خطة حقيقية لإعادة إعمار المناطق المدمرة أو تأمين عودة النازحين إليها. ومع مرور الوقت، تحوّلت المخيمات إلى مجتمعات معزولة، يعيش سكانها بين الأمل واليأس، بانتظار وعود لا تتحقق، فيما يزداد الضغط النفسي والاجتماعي نتيجة البطالة والفقر وفقدان الأمل بالمستقبل.
أما في ريف الحسكة، حيث يقيم المهجرون قسرًا من مدينة رأس العين ومحيطها، فإن الأوضاع تبدو أكثر قسوة. فالمخيمات البدائية التي أقيمت بإمكانات محدودة تفتقر إلى أدنى شروط العيش الكريم. الخيام مهترئة لا تصمد أمام المطر أو الرياح، والخدمات الإنسانية محدودة إلى درجة الانعدام.
يعتمد السكان على مساعدات متقطعة، بينما تغيب المنظمات الدولية عن المشهد بشكل شبه تام. ولا توجد برامج جدية لإعادة تأهيل المخيمات أو تحسين أوضاع سكانها الذين يطالبون بعودة آمنة إلى منازلهم التي ما تزال خارج نطاق سيطرتهم منذ تهجيرهم.
ويتحدث الأهالي عن استمرار حرمانهم من العودة إلى مناطقهم الأصلية التي يسيطر عليها مسلحون، بينما تبقى السلطات المحلية عاجزة عن إيجاد حلول دائمة أو حتى توفير الحد الأدنى من مقومات البقاء.
رغم التحولات السياسية في البلاد بعد سقوط النظام، لم ينعكس أي من ذلك على حياة المدنيين. فغياب خطة وطنية شاملة لإعادة الإعمار، واستمرار الانقسام بين القوى المسيطرة، وغياب التنسيق بين الجهات الإنسانية، كلها عوامل جعلت أوضاع السوريين العائدين والنازحين تراوح مكانها.
وتشير تقديرات محلية إلى أن عشرات آلاف العائلات ما تزال دون مأوى دائم، في وقت تتراجع فيه القدرة على تقديم المساعدات الإنسانية نتيجة شح التمويل وازدياد الأزمات الإقليمية. كما أدى تدهور الاقتصاد وارتفاع الأسعار إلى تفاقم معاناة الفئات الأضعف، خصوصًا في المناطق الريفية والحدودية.
في ظل هذا الواقع، يطالب السكان والمنظمات المحلية بضرورة وضع خطة طارئة لإعادة تأهيل المدن والبلدات المدمرة، وتأمين مواد التدفئة والاحتياجات الأساسية قبل حلول الشتاء. كما يدعون إلى تفعيل دور المجتمع الدولي والمنظمات الأممية في دعم مشاريع الإعمار وتوفير بيئة آمنة للعودة.
لكن غياب الإرادة السياسية، وتعدد الجهات الفاعلة على الأرض، واستمرار النزاعات المحلية، جميعها تعرقل أي تقدم فعلي نحو الاستقرار. وهكذا، تبقى المدن السورية المدمرة شاهدة على حربٍ لم تنتهِ بعد، بينما يعيش أبناؤها بين رماد الماضي وانتظار الغد المجهول.
ورغم صعوبة المشهد، لا يزال الأمل حاضرًا في وجدان كثيرين من السوريين الذين يؤمنون بأن العودة إلى بيوتهم ليست حلمًا بعيدًا. فبين ركام المنازل وأنقاض المدن، تولد إرادة البقاء وإعادة الحياة من جديد.
إن إعادة الإعمار لا تعني فقط بناء الحجر، بل ترميم الإنسان واستعادة الشعور بالأمان والانتماء، وهو ما ينتظره الملايين في كل زاوية من سوريا التي تبحث عن بداية جديدة بعد عقدين من الألم.