في لحظة فارقة من تاريخ السودان الحديث، وبعد أيام من تصاعد المجازر الميدانية في مدينة الفاشر، اجتمع وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي بنظيره السوداني محيي الدين سالم في القاهرة، في لقاء وُصف بأنه أحد أهم التحركات الدبلوماسية العربية تجاه الأزمة السودانية منذ تفجرها منتصف العام الماضي.
الاجتماع الذي حمل طابعًا إنسانيًا وسياسيًا وأمنيًا، تركز حول وقف النزيف في دارفور، واحتواء تداعيات الأحداث الأخيرة التي باتت تهدد بانهيار شامل للدولة السودانية، بما يحمله ذلك من ارتدادات خطيرة على أمن مصر والقرن الإفريقي ومنطقة الساحل.
القاهرة: دعم كامل للشعب السوداني وتمسك بوحدة أراضيه
وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، أكد خلال اللقاء أن القاهرة تقف "بكل ثبات" إلى جانب الشعب السوداني في محنته، مشددًا على أن وحدة السودان واستقراره جزء لا يتجزأ من أمن المنطقة واستقرارها.
وأضاف أن مصر تواصل انخراطها في كل المسارات الرامية إلى وقف إطلاق النار وتثبيت هدنة إنسانية شاملة تتيح إيصال المساعدات إلى ملايين المدنيين المحاصرين في مناطق الصراع.
وفي لهجة تعبّر عن حرص القاهرة على لعب دور إقليمي متوازن، شدد عبد العاطي على أن الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا، بل من خلال عملية سياسية شاملة تضمن وحدة المؤسسات السودانية وتعيد الثقة بين الأطراف.
الخرطوم: إشادة بالدور المصري ودعوة لتعاون أوسع
من جانبه، ثمّن الوزير السوداني محيي الدين سالم مواقف مصر، معتبرًا أن دعمها السياسي والإغاثي يشكل "صمام أمان" في ظل ما وصفه بـ الفراغ الدولي المتزايد تجاه الأزمة السودانية.
وأشار إلى أن التعاون مع القاهرة لا يقتصر على البعد السياسي، بل يمتد إلى ملفات الكهرباء، والمياه، والصحة، والتعليم، والبنية التحتية، وهي قطاعات تمسّ جوهر معاناة المواطن السوداني.
الملف المائي حاضر... وسد النهضة في الخلفية
لم يغب ملف مياه النيل عن اللقاء، إذ أكد الوزيران وحدة الموقف بين القاهرة والخرطوم كدولتي مصب، وتمسكهما بـ القانون الدولي في إدارة الموارد المائية، ورفضهما لأي إجراءات أحادية قد تمسّ حقوقهما التاريخية.
ورغم عدم ذكر إثيوبيا بالاسم، فإن البيان الختامي حمل إشارة واضحة إلى استمرار القلق من سياسات أديس أبابا بشأن سد النهضة، وما قد تمثله من تهديد مباشر للأمن المائي لكلا البلدين.
تحركات مصرية في مواجهة تصعيد دارفور
يأتي هذا التحرك المصري في وقت تتصاعد فيه التحذيرات الأممية من كارثة إنسانية في الفاشر، حيث تتحدث التقارير عن مجازر وعمليات تهجير قسري نفذتها قوات الدعم السريع بحق المدنيين.
وتخشى القاهرة، بحسب مصادر دبلوماسية، من أن يؤدي تفكك السودان إلى انزلاق مناطق حدودية في الجنوب الغربي المصري نحو الفوضى، ما يفرض عليها التحرك بسرعة لاحتواء الانهيار.
ويرى مراقبون أن اللقاء يعكس اتجاهًا مصريًا لتفعيل الدبلوماسية الوقائية، عبر بناء تحالف مصري–سوداني–تشادي محتمل في مواجهة تمدد المليشيات العابرة للحدود، وما تمثله من خطر أمني واقتصادي متزايد.
من الفاشر إلى القاهرة.. السودان على حافة الانهيار
تُعد مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، النقطة الأكثر اشتعالًا في الحرب السودانية منذ شهور، إذ شهدت خلال أكتوبر عمليات قتل جماعي ونهب واسع ودمار شبه كامل للبنية التحتية المدنية.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 300 ألف شخص نزحوا من الفاشر وحدها خلال الأسابيع الأخيرة، فيما حذّر برنامج الغذاء العالمي من مجاعة وشيكة تهدد ملايين السودانيين.
في هذا السياق، تبدو القاهرة مطالبة بتوازن دقيق: التدخل بحذر لإنقاذ الجار الجنوبي دون الانجرار إلى مواجهة عسكرية، مع الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في وادي النيل.
مصر والسودان في اختبار التاريخ
يحمل الاجتماع المصري السوداني في القاهرة رسالة مزدوجة:
الأولى، أن القاهرة لن تترك السودان يسقط؛
والثانية، أن أمن النيل ودارفور وجهان لأزمة واحدة، تحتاج إلى رؤية إقليمية متماسكة تتجاوز حدود البيانات الدبلوماسية.
وفيما تبدو الخرطوم غارقة في دمائها، تسعى القاهرة إلى أن تبقى جسر النجاة الأخير نحو سلام ممكن، قبل أن يبتلع الصراع ما تبقى من السودان.