بينما كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يؤكد من على متن طائرته الرئاسية أن "اتفاق وقف إطلاق النار في غزة لا يواجه أي خطر"، كانت الغارات الإسرائيلية في الوقت ذاته تحصد عشرات الأرواح في القطاع، بينهم أطفال ونساء نازحون.
التناقض الفجّ بين الخطاب الأمريكي المطمئن والواقع الإنساني المتفجّر يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة الهدنة المعلنة:
هل هي هدنة سياسية على الورق أم عملية عسكرية مستمرة تحت غطاء دبلوماسي؟
واشنطن: الهدوء مستمر رغم القصف
في تصريحاته، شدّد ترامب على أن الغارات الإسرائيلية الأخيرة جاءت ردًا على مقتل جندي إسرائيلي، مؤكدًا أن ذلك "لن يعرّض وقف إطلاق النار للخطر".
لكن الرئيس الأمريكي لم يُجب عن سؤال جوهري:
كيف يمكن لوقف إطلاق النار أن يبقى قائمًا بينما تتواصل الغارات، وتُرفع حالة الطوارئ في إسرائيل، وتُعلن غزة عن عشرات القتلى؟
تصريحات ترامب تعكس موقفًا سياسيًا مزدوجًا: فهو يلوّح بتدمير "حماس بسهولة بالغة"، وفي الوقت نفسه يصف الوضع بأنه "مستقر".
هذا النوع من الخطاب يُبقي الباب مفتوحًا أمام استمرار العمليات تحت سقف تفاهم هشّ، يُدار أمريكيًا ولا يُحترم ميدانيًا.
غزة: دماء النازحين تفضح الهدنة
بالتزامن مع حديث ترامب عن "استقرار وقف النار"، أكدت المصادر الطبية في غزة سقوط 59 شهيدًا، بينهم 22 طفلًا، إثر غارات إسرائيلية استهدفت منازل وخيام نازحين في رفح ومناطق أخرى.
الجيش الإسرائيلي برّر الضربات بأنها "ردّ على خروقات من جانب حماس"، رغم تأكيد الحركة أنها لم تطلق النار وأنها "ملتزمة بالهدنة".
بذلك، يجد المراقب نفسه أمام مشهد متكرر:
كل خرق ميداني يُحوّل إلى ذريعة لتوسيع القصف، بينما تستمر واشنطن في الحديث عن "استقرار الاتفاق".
المفارقة: من يدير الهدنة فعلاً؟
ما بين نفي "حماس" وتحذيرات نتنياهو وتصريحات ترامب، تتضح مفارقة جوهرية:
الهدنة تبدو قائمة سياسيًا فقط، بينما ميدانيًا يجري تغيير خرائط النار على الأرض.
والسؤال هنا:
هل واشنطن تملك فعلًا زمام المبادرة، أم أن إسرائيل تستخدم الغطاء الأمريكي لتصفية حساباتها داخل غزة قبل تثبيت الوضع الجديد؟
بين الخطاب والواقع
لغة ترامب – التي تجمع بين التهديد بالتدمير والتأكيد على "السلام" – تكشف عن عقلية إدارة الأزمة لا حلّها.
فهو يُطمئن الرأي العام الأمريكي بأن الأمور تحت السيطرة، لكنه في الوقت نفسه يمنح إسرائيل تفويضًا ضمنيًا لتوسيع عملياتها.
هذا التناقض بين الرواية الأمريكية والواقع الإنساني يُعيد إلى الأذهان مشهد التغطية الإعلامية خلال حرب 2014 و2021، حيث كانت التصريحات الرسمية تتحدث عن "احتواء التصعيد" بينما تُعرض على الشاشات صور أطفال يُنتشلون من تحت الركام.
تبدو "الهدنة" اليوم أقرب إلى اتفاق سياسي معلّق بين قوى لا تثق ببعضها، منه إلى تسوية حقيقية قابلة للحياة.
وإذا كان ترامب يرى أن "لا شيء سيُعرّض وقف إطلاق النار للخطر"، فإنّ الدماء على الأرض تقول العكس:
وقف النار الذي يتواصل فيه القصف ليس هدنة، بل هدنة ميتة تُدفن كل يوم في غزة.