أعادت منظمة العفو الدولية تسليط الضوء على واحدة من أكثر العمليات الأمريكية إثارة للجدل في اليمن، إذ دعت إلى فتح تحقيق دولي عاجل في الغارة التي استهدفت سجنًا بمحافظة صعدة شمال البلاد في أبريل الماضي، معتبرة أنها قد ترقى إلى جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني.
لكن خلف هذا النداء الحقوقي، تتكشف دلالات سياسية وعسكرية أعمق تتجاوز حدود اليمن، لتصل إلى البحر الأحمر والملف الإيراني، وإلى استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط بعد حرب غزة.
هجوم بصيغة قديمة... في توقيت جديد
جاءت الضربة الجوية في 28 أبريل 2025 ضمن عملية أمريكية أطلقت عليها القيادة المركزية اسم "Operation Rough Rider"، استهدفت مواقع تابعة لجماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، بزعم أنهم يهددون حركة الملاحة في البحر الأحمر.
لكن اللافت أن السجن الذي تم قصفه كان معروفًا منذ سنوات بأنه يحتجز مهاجرين أفارقة حاولوا عبور الحدود إلى السعودية، ولم يكن يستخدم لأغراض عسكرية، بحسب شهود وناجين من الهجوم.
ووفق وزارة الصحة في صنعاء، أسفرت الغارة عن مقتل أكثر من 60 مهاجرًا إفريقيًا وإصابة العشرات، في حين لم يصدر عن واشنطن أي توضيح بشأن طبيعة الهدف أو مبررات استهدافه.
رسائل تتجاوز صعدة
يرى مراقبون أن الغارة الأمريكية تحمل رسالة مزدوجة:
الأولى موجهة إلى الحوثيين الذين كثفوا هجماتهم البحرية في البحر الأحمر، والثانية إلى إيران التي تدعمهم عسكريًا وسياسيًا.
فالإدارة الأمريكية، بعد تصاعد عمليات المقاومة في غزة واستمرار المواجهة بين حزب الله وإسرائيل شمالًا، تسعى إلى إعادة ضبط ميزان الردع الإقليمي عبر استعراض القوة في أكثر الجبهات هشاشة — اليمن.
بعبارة أخرى، فإن الضربة على صعدة لا يمكن قراءتها كحادثة معزولة، بل كحلقة ضمن استراتيجية الضغط المركّب التي تنفذها واشنطن ضد المحور المناهض لها من طهران إلى صنعاء.
واشنطن تعيد إنتاج أخطاءها
تبدو العملية الأمريكية في اليمن تكرارًا لسيناريوهات سابقة من الضربات "الاستباقية" التي تحصد أرواح المدنيين أكثر مما تصيب الأهداف العسكرية.
منظمة العفو الدولية كشفت أن بقايا الذخائر في موقع القصف تعود لقنبلتين موجهتين من نوع GBU-39، وهي ذخائر دقيقة التوجيه تُستخدم عادة في عمليات القصف الجراحي، ما يطرح تساؤلات حول كيف ولماذا أصابت منشأة معروفة بأنها مدنية.
وتقول كريستين بيكيرلي، نائبة مديرة برنامج الشرق الأوسط في المنظمة:
> "من الصعب تصديق أن الولايات المتحدة لم تكن تعلم بطبيعة الهدف... هذه ليست مجرد خطأ في الإحداثيات، بل استخفاف خطير بأرواح المدنيين".
تواطؤ الصمت الدولي
رغم فداحة الحادثة، لم يصدر عن الأمم المتحدة أو التحالف العربي أي موقف حاسم، فيما اكتفت القيادة المركزية الأمريكية بالقول إنها "تراجع نتائج التحقيق الداخلي"، في تعبير يُستخدم عادةً لتجاوز تبعات قانونية أو سياسية محتملة.
أما المجتمع الدولي، المنشغل بحرب غزة وأزمة البحر الأحمر، فبدا وكأنه يتقبل ضمنيًا مبدأ الضربات الأمريكية الوقائية بذريعة محاربة التهديد الحوثي.
ويؤكد خبراء حقوقيون أن هذا الصمت الدولي يمثل شكلًا من الغطاء السياسي الذي يتيح لواشنطن تنفيذ عملياتها دون محاسبة، خصوصًا في مناطق النزاع المفتوحة مثل اليمن وسوريا والعراق.
اليمن... ساحة اختبار جديدة
من الواضح أن اليمن عاد ليكون ساحة اختبار أمريكية لمعادلة الردع بعد اتساع نطاق الصراع الإقليمي.
فبينما تبرر واشنطن تدخلها بأنه "حماية للملاحة الدولية"، يرى محللون أن الغارات الأخيرة تحمل أيضًا رسالة ضغط إلى طهران في ظل المفاوضات المتعثرة بشأن برنامجها النووي، ورسالة أخرى إلى تل أبيب مفادها أن واشنطن ما زالت تمسك بزمام المبادرة في المنطقة رغم تعثر حرب غزة.
إن توصيف منظمة العفو الدولية للغارة بأنها "قد ترقى إلى جريمة حرب" لا يختزل خطورة الحدث، بل يفتح الباب مجددًا أمام النقاش حول شرعية الدور الأمريكي في اليمن، وحدود التفويض الأخلاقي والعسكري الذي تمنحه واشنطن لنفسها خارج إطار الأمم المتحدة.
وبينما تواصل الولايات المتحدة حربها "الهادئة" في الظل، يبقى المدنيون — من صعدة إلى غزة — الضحايا الدائمين لحروب لا يقرّرونها ولا يفهمون منطقها، فيما تتحول سماء الشرق الأوسط إلى ساحة مفتوحة لاختبار الرسائل الأمريكية بالنار.