في شمال شرق سوريا، حيث تمتد المساحات الواسعة التي تسيطر عليها القوات الكردية، لا تزال الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية تشتعل بصمت، رغم غيابها عن صدارة الأخبار الدولية.
فبعد أكثر من عقدٍ من المواجهات المستمرة، عاد التنظيم إلى الواجهة مجددًا بهجماتٍ متزايدةٍ، وبتنظيمٍ أكثر إحكاماً مما مضى، وفق تقديرات أمنية تشير إلى أن وتيرة الهجمات ارتفعت بشكلٍ غير مسبوق خلال العام الأخير.
تؤكد التقارير الميدانية أن خلايا التنظيم في سوريا أعادت ترتيب صفوفها بهدوء، مستفيدةً من الفوضى التي خلّفها الانقسام السياسي والصراع بين القوى المحلية والدولية في البلاد. ويشير مراقبون إلى أن التنظيم استغلّ حالة الفراغ الأمني، ليعيد تجميع مقاتليه وتسليحهم عبر مستودعات ومخازن تركها الصراع مفتوحة أمام الجميع.
ورغم سنوات من العمليات العسكرية التي أنهكت التنظيم وأخرجته من معاقله في الباغوز عام 2019، إلا أن نشاطه الأخير يشير إلى مرحلة جديدة أكثر خطورة. فالهجمات لم تعد محدودة أو عشوائية كما كانت، بل باتت أكثر تنسيقاً ودقة في استهداف القوات المحلية ونقاط التفتيش، وحتى في زرع العبوات الناسفة على الطرق الصحراوية.
ويقدّر مسؤولون أمنيون أن التنظيم وسّع نطاق عملياته في مناطق الجزيرة والفرات، مستهدفًا عناصر من “قوات سوريا الديمقراطية” التي تشكّل وحدات حماية الشعب الكردية عمودها الفقري، حيث تشير البيانات إلى مقتل عشرات المقاتلين خلال العام الماضي، مقابل أسر قرابة مئة من عناصر التنظيم.
لكن التحدي الأكبر لا يتمثل فقط في خلايا التنظيم النشطة خارج السجون، بل أيضاً في ما يحدث داخلها.
فالسجون التي تحتجز آلاف المشتبه بانتمائهم لتنظيم الدولة تحوّلت إلى بؤر فكرية مغلقة، يُعاد فيها إنتاج الفكر المتطرّف من جديد. وتشير التقديرات إلى وجود نحو ثمانية آلاف سجين من أكثر من 45 دولة، بينهم أوروبيون وأميركيون وآسيويون، يقبعون منذ سنوات خلف الأسوار العالية في الحسكة ومحيطها، دون محاكمات واضحة أو أفق قانوني يحدد مصيرهم.
يقول القائمون على تلك السجون إن لكل جناح داخل المعتقل “أميرًا” أو قائداً دينياً يتولى مهمة إصدار الفتاوى وتنظيم الدروس، ما يعني أن فكرة “الخلافة” لم تنتهِ فعلياً، بل انتقلت من أرض المعركة إلى جدران الزنازين.
يعيش السجناء في ظروف قاسية، بأجسادٍ نحيلة وملامح منهكة، تحاصرهم الأمراض والأوبئة، فيما يُمنعون من أي وسيلة اتصال بالعالم الخارجي. لا تلفاز، ولا هواتف، ولا أخبار عن المتغيرات السياسية التي طالت سوريا والمنطقة.
ورغم عزلة المكان، فإن التنظيم ما زال يجد طريقاً للبقاء حيّاً خلف القضبان، حيث تُنقل التعليمات بين السجناء، ويُعاد نشر الأفكار ذاتها بين جيلٍ جديد من المحتجزين.
في موازاة ذلك، يعيش آلاف النساء والأطفال في معسكرات مترامية الأطراف أشبه بالسجون المفتوحة، أبرزها مخيّما “روج” و“الهول”.
في روج، الواقع على أطراف الصحراء، تختلط رياح العزلة برمال المعاناة. هناك نساء فقدن أزواجهن وأطفالهن في المعارك، وأخريات يبرّرن وجودهن في “أراضي الخلافة” السابقة بدوافع إنسانية أو دينية، فيما تصرّ جهات حقوقية على وصف احتجازهم بأنه “عقاب جماعي”.
في المقابل، يضمّ مخيم “الهول” أكثر من ستة آلاف شخص من نساء وأطفال يُعتقد أنهم ينتمون إلى عائلات مقاتلي التنظيم.
المخيم الذي يُعدّ الأكثر خطورة في العالم، يشهد باستمرار حوادث اعتداء وهجمات ضد الحراس والعاملين الإنسانيين، كما تنتشر داخله محاولات لتهريب الأطفال والنساء تحت ذريعة “تحرير أشبال الخلافة”.
تُحذّر مصادر محلية من أن هذا الجيل الناشئ في المخيمات بات يتربى على أيديولوجية التنظيم ذاتها، في بيئةٍ مغلقةٍ تكرّس الكراهية وترفض العالم الخارجي.
وبحسب تقديرات العاملين هناك، فإن نسبة كبيرة من النساء ما زلن متمسكات بفكر التنظيم، بينما يُظهر الأطفال سلوكاً مشابهاً لما كان يُغرس في معسكرات “الأشبال” سابقاً.
ويعبّر العاملون في إدارة هذه المخيمات عن قلقهم من أن يتحول هؤلاء الأطفال إلى “نسخة جديدة من داعش” إذا لم تُتّخذ إجراءات دولية عاجلة لإعادة تأهيلهم وإعادتهم إلى بلدانهم.
فالمعسكرات، كما يقول أحدهم، “ليست مجرد أماكن انتظار، بل مدارس مغلقة تُعلّم التطرف”.
وفي ظل تجاهلٍ دوليٍّ متزايد، وتردد الدول في استعادة رعاياها من هذه المخيمات، تبقى المنطقة كلها أمام خطرٍ جديد يتنامى في صمت، داخل أسوار السجون وخيام الصحراء، حيث لا يموت الفكر المتشدد... بل يُعاد إنتاجه جيلًا بعد جيل.