في مؤشر على بداية تراجع التوتر بين القاهرة وتل أبيب، كشفت مصادر دبلوماسية وأمنية إسرائيلية أن لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو برئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء حسن رشاد، جاء كمحاولة لإعادة ترميم العلاقات الثنائية التي شهدت توترًا غير مسبوق منذ اندلاع الحرب على غزة.
اللقاء الذي تم في تل أبيب، وسبقه اتصال مباشر بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونتنياهو برعاية وضغط أمريكي، يُعد أول تواصل مباشر رفيع المستوى بين البلدين منذ الأزمة التي فجّرها الخلاف حول محور فيلادلفيا ومعبر رفح.
جذور التوتر: من رفح إلى كامب ديفيد
بلغ التوتر بين القاهرة وتل أبيب ذروته بعد أن فرضت إسرائيل سيطرتها على الجانب الفلسطيني من معبر رفح خلال عملياتها العسكرية في غزة، وهو ما رفضته مصر بشدة، معتبرة ذلك انتهاكًا مباشرًا لسيادتها وتهديدًا لأمنها القومي.
وردّت القاهرة بخطاب سياسي حاد، إذ وصف الرئيس السيسي إسرائيل بـ"العدو" — وهي مفردة لم تصدر من أي رئيس مصري منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1979، في تعبير واضح عن عمق الغضب المصري من السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين.
كما اتهمت تل أبيب القاهرة بخرق بعض بنود الاتفاق المتعلقة بالانتشار العسكري في سيناء، بينما شنّت مصر حملة دبلوماسية مكثفة في المحافل الدولية دفاعًا عن غزة، واعتبرت أن "خطة الهجرة" التي روّج لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تمسّ أمنها القومي مباشرة.
لقاء “التهدئة الحذرة”
اللقاء بين نتنياهو واللواء حسن رشاد جاء وفق مصادر مطلعة بترتيب أمريكي مباشر خلال زيارة ترامب الأخيرة إلى إسرائيل، التي شهدت نقاشًا حول “اليوم التالي للحرب في غزة” ودور القاهرة في ترتيبات الأمن الحدودي.
وخلال الزيارة، التقى رشاد أيضًا رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) دافيد زيني، في إشارة إلى محاولة إعادة تفعيل القنوات الأمنية القديمة التي كانت تعمل في الظل منذ سنوات.
لكن رغم ما يبدو من أجواء إيجابية، يرى محللون إسرائيليون أن اللقاء لا يمثل “اختراقًا استراتيجيًا”، بل مجرد وقف مؤقت لتدهور العلاقات.
مصر: وسيط لا شريك
بحسب تحليل الباحث الإسرائيلي يوني بن مناحيم الصادر عن مركز القدس للشؤون العامة والأمنية (JCPA)، فإن القاهرة لا تسعى إلى تطبيع جديد مع إسرائيل، بقدر ما تحاول إعادة التموضع كوسيط إقليمي أساسي في إعادة ترتيب المشهد بعد الحرب.
وأكد التقرير أن مصر وضعت ثلاثة شروط واضحة لأي تقارب دبلوماسي أو أمني جديد:
1. الالتزام الصارم بوقف إطلاق النار في غزة.
2. عدم العودة إلى العمليات العسكرية.
3. فتح معبر رفح بشكل دائم أمام المساعدات وحركة المدنيين.
وحذّرت القاهرة من أن أي خرق لهذه البنود سيؤدي إلى انهيار الهدنة الهشّة، وربما إلى إعادة النظر في مستوى التنسيق الأمني بين الجانبين.
رسائل مصرية مزدوجة
يرى مراقبون أن مصر وجّهت من خلال هذا اللقاء رسالة مزدوجة: الأولى إلى واشنطن مفادها أن القاهرة ما زالت “الضامن الأهم للاستقرار الإقليمي”، والثانية إلى تل أبيب تؤكد أن التعاون ممكن فقط ضمن شروط السيادة المصرية.
كما أن اللقاء جاء بعد حملة إسرائيلية إعلامية تتهم مصر بـ“التقاعس عن منع تهريب الأسلحة” إلى غزة، في حين ردّت القاهرة بالتأكيد على أن “أي وجود إسرائيلي على حدود رفح مرفوض شكلًا ومضمونًا”.
انفتاح تكتيكي أم تحوّل في السياسة؟
يرى الخبراء أن ما يجري لا يتعدّى انفتاحًا تكتيكيًا مدفوعًا بالحسابات الأمريكية، خصوصًا أن إدارة ترامب تضغط لإشراك مصر في ترتيبات “القوة الدولية” المزمع نشرها في غزة بعد الهدنة.
ويعتقد بعض المحللين أن اللقاء يهدف بالأساس إلى منع تفكك التحالفات الأمنية في المنطقة، أكثر من كونه محاولة صادقة لبناء ثقة جديدة بين القاهرة وتل أبيب.
أما على المدى البعيد، فإن العلاقات المصرية الإسرائيلية ستبقى محكومة بمعادلة البرود الاستراتيجي: تعاون أمني محدود مقابل مسافة سياسية محسوبة، دون تجاوز الخطوط الحمراء التي تفرضها الحساسية الشعبية في مصر تجاه إسرائيل.
هدنة دبلوماسية لا أكثر
رغم الترحيب الإسرائيلي الحذر باللقاء، فإن أجواء عدم الثقة العميقة لا تزال تطغى على العلاقة بين الجانبين.
ويبدو أن اللقاء بين نتنياهو ورئيس المخابرات المصرية لم يكن سوى محاولة لإنقاذ خطوط الاتصال قبل أن تنقطع تمامًا، وليس بداية لتحالف جديد.
فالسلام المصري الإسرائيلي، رغم استمراره أكثر من أربعة عقود، لم يتحوّل يومًا إلى شراكة حقيقية، وظل محكومًا بالتوازنات الأمنية والوساطات الأمريكية.
لذلك، قد يكون هذا اللقاء أقرب إلى هدنة دبلوماسية مؤقتة أكثر منه إلى مصالحة استراتيجية، في انتظار ما ستفرزه التطورات المقبلة في غزة والملف الفلسطيني ككل.