الهدنة المسمومة: تسوية أميركية لإلغاء لبنان المقاوم

2025.10.27 - 10:42
Facebook Share
طباعة

في منتصف هذا الشهر، أثار تصريح رئيس الجمهورية جوزيف عون عاصفة سياسية حين قال إنّ «لا بدّ من التفاوض مع إسرائيل لتجنّب الدمار»، في إشارة بدت وكأنها تمهيد لمسار جديد يطيح بكل ما ترسّخ من مفاهيم السيادة والمواجهة منذ عقود. لم يكن هذا الموقف «يتيماً»، بل جاء ضمن سلسلة تصريحات ومبادرات لقوى وشخصيات لبنانية كانت حتى الأمس القريب تُعدّ من حلفاء المقاومة، قبل أن تنخرط في مشروع الحلف الأميركي–السعودي وتتبنّى سردية «السلام الواقعي» كخيار إلزامي للبقاء.

هذه الدعوات التي تُغلَّف بعبارات منمقة حول «المصلحة الوطنية» و«إنقاذ لبنان من الخراب» ليست إلا واجهة لعملية سياسية متكاملة، تُراد منها إعادة تعريف هوية لبنان، وإسقاط مشروع المقاومة نهائياً، عبر فرض هدنة أميركية–إسرائيلية تُنهي الصراع من طرف واحد. هدنة وُصفت في أروقة بيروت بأنها «الهدنة المسمومة»، لأنها تحمل في طيّاتها مشروع تصفية متدرّج للبنان المقاوم، تحت غطاء «الاستقرار والسلام».

 


من هدنة الحرب إلى معركة الداخل

منذ إعلان وقف الحرب في 27 تشرين الثاني 2024، برزت رسالة سياسية واضحة: انتهى وقت القتال، وبدأ وقت الحسم الداخلي. فالمطلوب – بحسب المنظور الأميركي – تصفية تركة حزب الله، وتجريد المقاومة من أي شرعية، تمهيداً لبناء سلطة جديدة خاضعة بالكامل لوصاية واشنطن.

وقد تحققت الخطوات الأولى سريعاً: انتخاب جوزيف عون رئيساً للجمهورية، تكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة، وصدور قرارات حكومية في جلستَي 5 و7 آب الماضيين تستهدف رمزية المقاومة ودورها. ومع اندفاعة إعلامية ضخمة، تحوّل سلاح حزب الله إلى «القضية الوحيدة» في البلد، وجرى تهميش كل الملفات الأخرى، وكأن لبنان لا يعيش أزمة اقتصادية وانهياراً مالياً ونزيفاً اجتماعياً.

لكنّ ما انكشف لاحقاً كان أخطر بكثير من مسألة نزع السلاح. فالمشروع – بحسب مصادر سياسية مطلعة – يتجاوز الحزب إلى الدولة ذاتها، أي إلى تفكيك لبنان وإعادة رسمه على صورة «كانتونات» طائفية ضعيفة متنازعة، تخدم مصلحة إسرائيل في محيط خالٍ من أي تهديد.

 


لبنان الجديد في الحلف الأميركي – الإسرائيلي

في كواليس المفاوضات، تُرسم ملامح «لبنان جديد» لا يشبه الجمهورية التي عرفها اللبنانيون. لبنان منزوع الدسم، بلا مقاومة، بلا قرار مستقل، تُدار حدوده وجيشه عبر لجنة «ميكانيزم» أمنية مشتركة بإشراف أميركي مباشر.
تتحدث مصادر دبلوماسية عن خطة تبدأ بتثبيت هدنة طويلة الأمد، مروراً بإخراج إيران وسوريا من أي دور في المعادلة اللبنانية، وصولاً إلى ترسيم نهائي للحدود البرية والبحرية يمنح إسرائيل شرعية ميدانية على أجزاء من الجنوب ومزارع شبعا.

الملف الأخطر هو محاولة تكريس الأمر الواقع الإسرائيلي باعتباره نقطة انطلاق للمفاوضات، وليس نتيجة حرب. وهذا ما يجعل الطرح الحالي أكثر خطورة من اتفاق 17 أيار عام 1983، الذي سقط تحت ضغط المقاومة والشارع.
اليوم، يبدو أن واشنطن وتل أبيب تستغلان انهيار سوريا وانكفاء إيران، وتراجع الدعم الإقليمي، لفرض اتفاق «سلام» ينقل لبنان من موقع المواجهة إلى موقع التبعية الكاملة.

 


من دمشق إلى بيروت: وحدة المسار والمصير

تتعامل إسرائيل مع لبنان وسوريا كوحدة جغرافية – أمنية واحدة. فالمطلوب من دمشق وبيروت واحد: الاعتراف بشرعية الاحتلال، وإقرار «التنسيق الأمني» بحجة حماية الحدود ومنع تسلّل السلاح والمقاتلين.
ومع سقوط النظام السوري بعد عامين من حرب الاستنزاف، شعرت تل أبيب أنها حصلت على «فرصتها التاريخية» لتصفية الجبهة الشمالية كلها دفعة واحدة. باتت ترى في غياب العمق السوري للمقاومة ظرفاً مثالياً لتثبيت ردع أحادي الجانب، وتوقيع اتفاقات تُشرعن سيطرتها الميدانية.

هنا، تُعاد صياغة المشهد اللبناني – السوري بغطاء أميركي وفرنسي، وبموافقة ضمنية من عواصم عربية تشارك في اتفاقات أبراهام. الهدف: إنهاء كل جيب مقاوم على المتوسط، وتحويل لبنان إلى جدار حماية للحدود الشمالية لإسرائيل.

 

انهيار موازين القوى واستفراد أميركي

خلافاً لما كان يحصل بعد الحروب السابقة، يغيب اليوم أي توازن قوى أو مظلة إقليمية ضامنة للبنان. فلا دمشق قادرة على الدعم، ولا طهران موجودة في طاولة التفاوض، بعد أن أُخرجت عمداً من المشهد.
وعندما صرّح رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف عن استعداد طهران للتفاوض حول تطبيق القرار 1701، سارع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى رفض «التدخل الإيراني»، بينما رحّب بالدور الفرنسي «المحايد» الذي تحوّل عملياً إلى امتداد للموقف الإسرائيلي.

حتى باريس، التي كانت تاريخياً وسيطاً بين بيروت ودمشق، دخلت هذه المرة من بوابة تل أبيب، وسخّرت قدراتها الدبلوماسية لحماية المصالح الإسرائيلية. النتيجة: اتفاق مطروح يُشبه استسلاماً موصوفاً، أسوأ من اتفاق 17 أيار من حيث المضمون والتوقيت والسياق.

 

من الهدنة إلى الإلغاء

منذ اتفاق الهدنة عام 1949 وحتى القرار 1701 عام 2006، كان القاسم المشترك في كل محطة تفاوضية هو وجود قوة لبنانية قادرة على فرض معادلة ميدانية.

عام 1949، وقّع لبنان الهدنة مع إسرائيل بعد معارك المالكية، بوساطة أممية حافظت نسبياً على التوازن.

عام 1978، جاء القرار 425 عقب الاجتياح الإسرائيلي، وأسس لوجود «اليونيفل».

عام 1983، فُرض اتفاق 17 أيار بعد اجتياح بيروت، لكنه سقط تحت ضغط المقاومة.

عام 1996، وُقّع تفاهم نيسان برعاية أميركية–فرنسية–سورية بعد مجزرة قانا، فثبّت حق المقاومة في الرد.

عام 2006، أُقرّ القرار 1701 بعد حرب تموز، فأرسى هدنة طويلة نسبياً.

عام 2022، وُقّع اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وهو الذي يُستخدم اليوم كذريعة لفتح باب المفاوضات البرية.

عام 2024، أُعلن وقف إطلاق النار بعد حرب مدمّرة، لكنّ إسرائيل واصلت خرق الاتفاق واغتيال قادة المقاومة.


في كل هذه المحطات، كانت المقاومة – أو الجيش اللبناني في المراحل الأولى – تملك ورقة الميدان. أمّا اليوم، فالمعادلة مقلوبة: لبنان يدخل المفاوضات من موقع الانكسار السياسي، بينما إسرائيل تفاوض من موقع المنتصر.

 

«الميكانيزم».. البوابة نحو التطبيع

تجري حالياً مفاوضات سرّية لتوسيع لجنة «الميكانيزم» التي تشرف على تطبيق وقف النار، لتضمّ سياسيين لبنانيين وإسرائيليين، ما يعني تحويلها إلى قناة مفاوضات مباشرة شبيهة بالتي تُدار في دمشق.
الضغوط الأميركية بلغت ذروتها مع وصول المبعوثة مورغان أورتاغوس إلى بيروت، وهي تحمل مطلباً واضحاً: «إدخال لبنان في عملية تفاوضية شاملة». أما البديل، فهو التلويح بحرب إسرائيلية جديدة «تُعيد الأمور إلى نصابها».

داخل الحكومة اللبنانية، يُتهم رئيس الوزراء نواف سلام بأنه يسعى لتمهيد الطريق نحو هذه المفاوضات، بالتنسيق مع الرئيس عون وبعض القوى المحسوبة على واشنطن. مصادر برلمانية تصف الحكومة الحالية بأنها «ثلاثية لا ثلاثينية»، أي أنها تُدار من ثلاث جهات: السفارة الأميركية، القصر الجمهوري، ومكتب رئيس الوزراء، بينما تُهمّش كل المؤسسات الأخرى.

 


خطر التفكك: فيدراليات على مقاس الاحتلال

الطرح الأخطر الذي بدأ يتسرّب إلى الإعلام هو الحديث عن «لبنان الفيدرالي»، أو «دويلة الحوض الخامس»، الممتدة من كفرشيما إلى المدفون. هذه التصورات ليست عابرة، بل جزء من هندسة سياسية يرسمها بعض المسؤولين بدعم أميركي، تحت شعار «إدارة ذاتية للمناطق الآمنة».
بمعنى آخر، تسعى إسرائيل – عبر هذه المقاربة – إلى تقسيم لبنان من الداخل، وتحويل طوائفه إلى وحدات سياسية متنازعة، بحيث يصبح أي شكل من أشكال المقاومة مستحيلاً في ظل غياب الدولة المركزية.

 


بين الهدنة والاستسلام

تُسوّق واشنطن للهدنة الحالية على أنها «فرصة تاريخية للسلام»، بينما تراها المقاومة هدنة مشبوهة تُمهّد لاستسلام سياسي شامل. الفارق بين المقاربتين جوهري: الأولى تعتبر لبنان تابعاً لميزان الردع الإسرائيلي، والثانية تعتبره شريكاً في محور الممانعة الذي لا يزال – رغم الضربات – يحتفظ بقدر من القوة.

تل أبيب تعرف تماماً أن حزب الله لم يُهزم، بل أعاد تشكيل صفوفه بعد خسائره القيادية، ويستعيد تدريجياً بنيته التنظيمية. لذلك تسعى إسرائيل إلى تحقيق ما عجزت عنه في الحرب عبر التفاوض، مستفيدة من لحظة الانقسام الداخلي والانهيار الاقتصادي.

 


سيناريوهات المرحلة المقبلة

1. مسار تفاوضي تدريجي: توسيع لجنة الميكانيزم، ثم مفاوضات غير مباشرة برعاية فرنسية–أميركية.


2. تصعيد عسكري محدود: تل أبيب قد تُنفّذ ضربات نوعية داخل لبنان لإجباره على الاستجابة.


3. فوضى داخلية موجّهة: إشعال احتجاجات في الجنوب أو العاصمة لخلق ضغط شعبي ضد المقاومة.


4. تعديل دستوري أو فيدرالي: تمريره تحت شعار «اللامركزية الموسعة».

 

كل هذه السيناريوهات تصب في هدف واحد: إلغاء لبنان المقاوم، وتحويله إلى منطقة عازلة في شرق المتوسط.

 

أخطر من 17 أيار

يُجمع عدد من الدبلوماسيين والباحثين على أن الطرح الحالي أخطر من اتفاق 17 أيار، لأن إسرائيل هذه المرة لا تحتاج لتوقيع رسمي كي تُطبّق شروطها. هي تفرضها فعلياً عبر الردع الجوي والاغتيالات، وتُكرّسها بالضغوط السياسية والاقتصادية.
الهدنة المسمومة ليست سوى اسم آخر لمرحلة «ما بعد المقاومة». وإذا لم يتحرّك الداخل اللبناني سريعاً لإعادة بناء توازن الردع، فقد يجد نفسه قريباً أمام اتفاق يُشرعن الاحتلال، ويُحوّل بيروت إلى ضاحية منزوعة السيادة في شرق المتوسط.


 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 1