«الصلح الغامض في إدلب».. عودة الأشباح القديمة

2025.10.27 - 10:12
Facebook Share
طباعة

 في تطور لافت يعيد إلى الأذهان مشاهد سنوات الصراع الأولى في الشمال السوري، شهدت محافظة إدلب خلال الأيام الأخيرة اجتماعاً نادراً ضم قادة فصائل جهادية سورية وأجنبية في ما سُمّي بـ«صلح مخيم الغرباء»، وهو اتفاق ينهي مواجهة محدودة اندلعت مؤخراً في محيط مدينة حارم الحدودية، شمال غرب البلاد.

الاجتماع، الذي انعقد في 23 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أعاد إلى الواجهة مشهد «الوساطات الميدانية» التي كانت سائدة بين عامي 2012 و2018، حين كانت الفصائل المسلحة تعقد صفقات تهدئة وتفاهمات جزئية بعيداً عن سلطة الدولة أو أي مظلة سياسية جامعة.


تصعيد وانفجار ميداني
بدأت شرارة التوتر، وفق مصادر ميدانية، بعد مداهمة نفذتها وحدات الأمن الداخلي السوري لمخيم «الفردان» القريب من حارم، وهو منطقة تُعرف محلياً باسم «مخيم الغرباء»، يقيم فيها مقاتلون أجانب من جنسيات فرنسية وبلجيكية وأفريقية، يتبعون لكتيبة يقودها الجهادي الفرنسي السنغالي الأصل عمر ديابي، المعروف باسم عمر أومسين.

تطورت العملية سريعاً إلى اشتباكات محدودة بين القوات الأمنية ومسلحين من الكتيبة، قبل أن تتدخل وساطات من فصائل تركستانية وأوزبكية وطاجيكية لوقف النار ومنع توسع المواجهات نحو إدلب وجسر الشغور.

في اليوم التالي، دُعي ممثلو هذه الجماعات إلى جلسة وساطة عُقدت داخل أحد المقرات العسكرية في إدلب، بحضور شخصيات بارزة من الحزب الإسلامي التركستاني، والفرقة 82 التابعة للجيش السوري الجديد، وقادة مهاجرين من أوزبكستان وطاجيكستان. كما شارك ممثل عن وزارة الدفاع السورية، في مؤشر على رغبة الحكومة في احتواء التوتر دون تصعيد مباشر.


اتفاق «التهدئة المشروطة»
نصّ الاتفاق على وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء الحملات الإعلامية المتبادلة بين «الغرباء» والأمن الداخلي، إلى جانب تحويل ملف النزاع إلى القضاء الشرعي في وزارة العدل، بإشراف لجنة تضم ممثلين عن التركستانيين والأوزبك والطاجيك.

كما تضمّن الاتفاق سحب الأسلحة الثقيلة من المخيم وتسليمها إلى المعسكرات الرسمية، مع تعهّد بعدم ملاحقة المقاتلين الأجانب المشاركين في الاشتباك، في خطوة وُصفت بأنها «تنازل متبادل» يهدف لتجنب انفجار أكبر.

وتشير مصادر متابعة إلى أن الاتفاق يُعدّ محاولة اختبار لمدى قدرة الحكومة السورية الجديدة على التعامل مع المقاتلين الأجانب، الذين يشكلون ملفاً بالغ الحساسية في الشمال السوري، خصوصاً بعد تعقيدات ملف «العودة والدمج» الذي لم يُحسم بعد.


عمر ديابي.. القائد المثير للجدل
يُعتبر عمر ديابي، أو «أومسين»، أحد أبرز الجهاديين الفرنسيين الذين انتقلوا إلى سوريا عام 2011. أسس كتيبة «الغرباء» التي ضمّت ناطقين بالفرنسية من أوروبا وأفريقيا، واستقر في محيط مدينة حارم منذ عام 2013.

أُدرج ديابي على قوائم الإرهاب الدولية للأمم المتحدة عام 2014، وتتهمه الأجهزة الأمنية السورية بتحويل المنطقة التي يسيطر عليها إلى ملاذ للمقاتلين الأجانب واحتجاز مدنيين، بينهم طفلة فرنسية.

لكن أنصاره ينفون هذه الاتهامات، ويقولون إنها «جزء من حملة استخباراتية دولية لتشويه سمعته تمهيداً لتسليمه». ويرون أن المخيم الذي يديره ليس قاعدة عسكرية بل «منطقة إقامة إنسانية للمهاجرين».


توازن هشّ بين الدمج والسيطرة
تؤكد أوساط سياسية في دمشق أن «اتفاق الغرباء» لا يمثل حلاً نهائياً، بل مجرد «هدنة ميدانية» لتبريد الساحة في إدلب. فالتحدي الأكبر، كما يقول محللون، هو كيفية دمج المقاتلين الأجانب ضمن هيكل رسمي يخضع للدولة، دون تفجير ردود فعل عنيفة أو خلق تمرد جديد.

في المقابل، يعتبر مقاتلو «الفرقة 82» و«الفرقة 84» – اللتان تضمان عناصر أجانب وعرب – أن الدولة تسعى إلى تفكيك الكيانات الجهادية تدريجياً، فيما يطالبون بـ«ضمانات مكتوبة» قبل أي خطوة نزع سلاح أو إعادة دمج.

ويقول مصدر مقرب من بعض تلك الفصائل إن «المقاتلين الأجانب يعيشون قلقاً حقيقياً من التصفية أو الاعتقال، لذلك يقاومون كل محاولة لتغيير الوضع الراهن».


بين السياسة والأمن
من وجهة نظر رسمية، تصف الحكومة السورية الاتفاق بأنه «نجاح أمني منظم» لإعادة فرض القانون وضبط السلاح في المناطق الشمالية. ويقول مسؤول أمني في إدلب إن «ما جرى ليس سوى إجراء لإعادة الاستقرار، بعد تجاوز بعض المقاتلين الخطوط الحمراء».

لكن مراقبين يرون أن الواقع أكثر تعقيداً، إذ لا يزال الانقسام الأيديولوجي بين الجهاديين المحليين والأجانب قائماً، ما يجعل أي صلح هشّاً بطبيعته.

في المقابل، يعتبر ناشطون معارضون أن «الصلح» مجرد مظهر من مظاهر إعادة تدوير الفصائل القديمة في ثوب جديد، وأن «إدلب لا تزال ساحة تنافس بين مشاريع عسكرية متناقضة أكثر من كونها منطقة استقرار فعلي».


خاتمة: هدوء ما قبل العاصفة؟
تُجمع التقديرات على أن «صلح مخيم الغرباء» ليس نهاية للأزمة، بل محطة مؤقتة ضمن مسار طويل من إعادة تشكيل السلطة في الشمال. فبينما تسعى دمشق إلى بسط نفوذها عبر الوساطات لا المواجهة، يراهن المقاتلون الأجانب على الزمن لإعادة ترتيب صفوفهم.

وفيما تُظهر الصورة الرسمية مشهداً لـ«سلام منضبط»، يبقى كثيرون في إدلب يرونه هدوءاً هشّاً على فوهة بركان، مرشحاً للاشتعال مجدداً عند أول احتكاك جديد بين الغرباء وأجهزة الدولة.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 5