تبدو إسرائيل اليوم أمام مشهد لم تتخيله حتى في أكثر كوابيسها قتامة: قيادة عسكرية أمريكية تُدار من قلب أراضيها، ترفع علم الولايات المتحدة وحده، وتصدر الأوامر التي يلتزم بها الجنود الإسرائيليون دون نقاش.
هذا ما كشفه تقرير موسع لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، التي وصفت ما يحدث بأنه “تحقق الكابوس الإسرائيلي الأكبر”، في إشارة إلى تحول الصراع مع الفلسطينيين من نزاع إقليمي إلى قضية دولية متعددة الأطراف، تحت إشراف مباشر من واشنطن وشركائها الغربيين والعرب.
“القيادة الأمريكية” في كريات غات.. عاصمة بديلة أم مركز مراقبة؟
وفق التقرير، اختارت الولايات المتحدة مدينة كريات غات جنوب إسرائيل لتكون مقراً لما يسمى بـ“القيادة الأمريكية”، وهي مركز مدني – عسكري مشترك يُشرف على مراقبة وقف إطلاق النار في غزة وتنسيق إدخال المساعدات الإنسانية.
لم يقتصر الوجود على الجنود الأمريكيين، بل انضم إليهم عسكريون من فرنسا، وإسبانيا، وألمانيا، وبريطانيا، واليونان، والأردن، والإمارات وأستراليا، أي من دول سبق أن واجهت إسرائيل في حروب دبلوماسية قاسية.
إلا أن المشهد الأكثر رمزية – كما تقول الصحيفة – هو أن العلم الوحيد المرفوع فوق القاعدة هو العلم الأمريكي، بينما غاب العلم الإسرائيلي للمرة الأولى، في دلالة على من يمتلك القرار والسيادة الفعلية داخل المجمع.
نتنياهو ينفي “الوصاية”.. لكن الواقع يفضحه
يحاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التخفيف من وقع الانتقادات، مؤكداً أن ما يجري “ليس حماية أمريكية لإسرائيل” بل “قيادة مشتركة” لإدارة مرحلة ما بعد الحرب.
لكن الصحفي الإسرائيلي إيتمار إيشنر كتب بوضوح أن الواقع على الأرض لا يترك مجالاً للشك:
“في هذا المكان هناك دولة واحدة فقط تدير الأمور، اسمها الولايات المتحدة.”
الجيش الإسرائيلي عيّن اللواء ياكي دولف ممثلاً له في القاعدة، لكن القرار النهائي في كل صغيرة وكبيرة — من حركة الشاحنات الإنسانية إلى رد الفعل العسكري على “انتهاكات حماس” — يصدر من الجانب الأمريكي.
روبيو يعلنها: نحن أصحاب القيادة
وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو زار الموقع يوم الجمعة، وصرّح من هناك بأن ما يجري “إنجاز تاريخي لم يحدث من قبل”.
روبيو شدد على أن الهدف من هذا الوجود الدولي هو الحفاظ على وقف إطلاق النار، وإدارة المساعدات الإنسانية، ومنع أي حادث قد يشعل المواجهات من جديد.
وقال بوضوح: “نحن ننشئ هنا قوة استقرار من جميع الدول الراغبة بالمشاركة، وسنختار التفويض المناسب سواء من الأمم المتحدة أو جهة أخرى. المهم أن تبقى غزة آمنة وأن تصل المساعدات دون نهب.”
وأضاف أن الخطة الأمريكية طويلة المدى تهدف إلى إعادة إعمار غزة، ونزع سلاح الفصائل، وضمان “ألا يتكرر 7 أكتوبر مرة أخرى”.
واشنطن تمسك بالخيوط كلها
بحسب “يديعوت أحرونوت”، تم تعيين ستيفن فاجن، السفير الأمريكي السابق في اليمن، مديراً جديداً للقيادة بالنيابة عن الخارجية الأمريكية، لتنسيق كل ما يتعلق بالشؤون المدنية والعسكرية داخل المجمع.
من هناك، تُعرض على شاشات ضخمة بيانات لحظية من غزة:
توقيت دخول شاحنات الإغاثة،
حركة الأسواق ونقص المواد الغذائية،
مؤشرات استقرار الوضع الأمني.
كل ذلك يُراقب دقيقة بدقيقة. وبحسب الصحيفة، فإن “القاطرة الأمريكية في حالة هستيريا”، بمعنى أنها لن تسمح لإسرائيل بإشعال الحرب مجدداً مهما كانت الذرائع.
قوة استقرار دولية مرتقبة
روبيو كشف أيضاً عن تحركات لإنشاء “قوة استقرار” دولية تضم دولاً عربية وغربية، دون الإفصاح عن أسمائها، مشيراً إلى أن بعض الدول “اعترضت عليها إسرائيل”، لكنه رفض ذكرها.
في الوقت نفسه، تستمر التحركات الأمريكية المكوكية في المنطقة؛ إذ تصل مورغان أورتاغوس، ممثلة واشنطن لدى الأمم المتحدة، إلى إسرائيل ولبنان لمتابعة آليات وقف النار، تليها زيارة مرتقبة لوزير الطاقة الأمريكي كريس رايت في نهاية الأسبوع المقبل.
من سيادة الدولة إلى إدارة الوصاية
بينما يحاول نتنياهو التمسك بخطاب “الاستقلال الإسرائيلي”، يبدو أن الواقع الجديد يجعل القيادة الأمريكية في كريات غات هي من يمسك بالمفاتيح السياسية والعسكرية جنوب إسرائيل.
الراية المرفوعة هناك ليست مجرد علم، بل رمز لتحول استراتيجي في بنية القرار الإسرائيلي، حيث أصبحت واشنطن — فعلياً — الوصي على الأمن الإسرائيلي والمشرف على حدود غزة.
وبذلك، فإن “الكابوس” الذي خافته تل أبيب طويلاً قد تحقق:
لم تعد الحرب مع الفلسطينيين شأناً إسرائيلياً داخلياً، بل ملفاً عالمياً تُدار تفاصيله من مكتب أمريكي على الأراضي الإسرائيلية نفسها.