تعيش إسرائيل منذ أيام على وقع عاصفة سياسية وقضائية جديدة، بعد شهادة نادرة أدلى بها نائب مفوض الشرطة المتقاعد تساحي حافكين أمام المحكمة المركزية في القدس، في القضايا المعروفة بـ"ملفات نتنياهو" (1000، 2000، 4000).
هذه الشهادة، التي وصفها الإعلام العبري بأنها "زلزال قضائي"، لم تقتصر على الطعن في نزاهة التحقيقات، بل طالت أركان النظام القضائي والأمني، من الشرطة إلى النيابة العامة والمستشار القضائي للحكومة، ما يجعلها ـ وفق محللين إسرائيليين ـ "القنبلة التي يمكن أن تقلب كل شيء رأسا على عقب".
فضيحة في قلب جهاز إنفاذ القانون
الصحافي الإسرائيلي ماتي توشفيلد، في مقاله بموقع "واللا"، كتب أن ما كشفه حافكين "كان كافيًا في أي دولة ديمقراطية لإطلاق موجة إقالات واعتقالات فورية"، مضيفًا أن "ماحاش" (وحدة التحقيق مع رجال الشرطة) والنيابة العامة تصرفتا لحماية المسؤولين المتورطين ومنع فتح أي تحقيق جدي.
بحسب الشهادة، فإن ضباط التحقيق في وحدة "لاهاف 433" ارتكبوا مخالفات جسيمة أثناء إعداد ملفات نتنياهو، من بينها:
توسيع نطاق التحقيقات دون تفويض قانوني من المستشار القضائي أفيخاي ماندلبليت.
تعديل محاضر التحقيقات وتزوير أقوال المستجوبين.
اعتقال امرأة مرتبطة بأحد شهود الدولة (نير حيفيتس) فقط لإخراجه من توازنه النفسي أثناء التحقيق.
علم المحققين بأن الاجتماع الذي بُني عليه جوهر الملف 4000 لم يحدث أساسًا، ومع ذلك تم إدراجه في لائحة الاتهام بموافقة المستشار القضائي.
ويؤكد حافكين أنه حاول تنبيه رؤسائه إلى خطورة هذه الانتهاكات، لكنهم تجاهلوا الأمر تمامًا، بل تلقّى أوامر بعدم متابعة الشكاوى داخل "ماحاش"، التي بدورها أغلقت جميع الملفات المتعلقة بهذه التجاوزات.
ملفات نتنياهو الثلاثة: شبكة فساد أم ملاحقة سياسية؟
القضايا المعروفة إعلاميًا باسم ملفات 1000 و2000 و4000، تشكل مجتمعة أخطر محاكمة لرئيس وزراء في تاريخ إسرائيل:
1. القضية 4000 (بيزك/واللا) – التهمة: الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة.
يُتهم نتنياهو بمنح مزايا تنظيمية ضخمة لشركة الاتصالات “بيزك” مقابل تغطية إعلامية إيجابية له في موقع "واللا" الإخباري.
2. القضية 1000 (الهدايا) – التهمة: الاحتيال وخيانة الأمانة.
تلقّى نتنياهو وزوجته هدايا باهظة من رجال أعمال مقابل تسهيلات حكومية.
3. القضية 2000 (يديعوت أحرونوت) – التهمة: الاحتيال وخيانة الأمانة.
تفاوض نتنياهو مع ناشر الصحيفة على تغطية إيجابية مقابل إضعاف صحيفة منافسة عبر تشريع برلماني.
ورغم ثقل التهم، يصر نتنياهو على أنه ضحية "مؤامرة سياسية" تقودها أجهزة إنفاذ القانون بدعم من الإعلام، قائلاً في جلسات مغلقة إنهم "لا يبحثون عن العدالة، بل عن رأسه".
العفو الرئاسي.. الخلاص المعلّق
تطرّق المقال أيضًا إلى مسألة العفو الرئاسي، التي أثيرت مؤخرًا بعد أن طلب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتصوغ منح نتنياهو العفو الكامل.
إلا أن القانون الإسرائيلي يشترط أن يقدّم نتنياهو بنفسه طلب العفو، وهو ما يرفضه بشدة لأنه يعتبره "اعترافًا ضمنيًا بالذنب".
ويرى مراقبون أن قبول نتنياهو بالعفو يعني انتحارًا سياسيًا له، في حين أن رفضه يضعه في مواجهة مفتوحة مع القضاء والإعلام على حد سواء.
أزمة داخل الائتلاف: تشاؤم وضغط متصاعد
حتى الأسبوع الماضي، كان نتنياهو يستعد لافتتاح الدورة الشتوية للكنيست باعتباره "الفائز الأكبر"، مستندًا إلى دعم أميركي متزايد ومكاسب عسكرية في غزة.
لكن شهادة حافكين قلبت المشهد تمامًا، وأعادت إلى الواجهة الانقسامات داخل الائتلاف الحاكم، خصوصًا مع استمرار مقاطعة الأحزاب الحريدية المتشددة وتمرّد وزيري الأمن القومي إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش.
كما واجه نتنياهو هزيمة برلمانية مدوّية بعد تمرير الكنيست مشروع قانون لفرض السيادة في الضفة الغربية بأغلبية معارضة، ما كشف عن اهتزاز قبضته على التحالف الحكومي.
اهتزاز داخل مكتب نتنياهو: استقالات وصدامات
أزمة نتنياهو لم تعد سياسية فحسب، بل إدارية أيضًا. فمكتبه يشهد تفككًا متسارعًا:
المستشار الإعلامي يوناتان أوريتش مُنع من العمل لأسباب قانونية.
رئيس الأركان السابق غادر لمنصب دبلوماسي في لندن.
مستشاره السياسي أصبح مديرًا عامًا لحزب الليكود.
وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر يستعد للمغادرة.
وأخيرًا، تفاقم الخلاف مع مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي، الذي تمت إقالته بعد تسريب تصريحات تؤيد صفقة مع حماس لإطلاق سراح الرهائن.
بين الشهادة والهاوية
يرى ماتي توشفيلد أن ما يحدث اليوم هو "تكرار لنفس الحماس الأعمى الذي سيطر على النظام القضائي خلال ملاحقة نتنياهو"، وأن إسرائيل قد تكون أمام لحظة مفصلية تعيد رسم العلاقة بين القضاء والسياسة.
لكن الأكيد أن شهادة تساحي حافكين لن تمر مرور الكرام؛ فهي تفتح أبوابًا واسعة على أزمة شرعية تطال ليس فقط محاكمة نتنياهو، بل الثقة العامة في مؤسسات الدولة الإسرائيلية نفسها.